تتجلى آثار الحرب بشتى صورها وأشكالها في الشمال السوري المحرر ، من بؤس وفقر وتردٍ في المعيشة لكن واقع التعليم هو أكثر صور الشقاء الذي يعانيه أهلنا هناك. .
تجوّل في الشوارع وانظر إلى المدارس المدمرة, فالنظام لم يُبقِ للأبرياء الذين طالبوا بحريتهم وسيلة للإذلال لم يتمثل بها ، فقد هدم الجوامع والبيوت، وأخيراً رأى نفسه متمكناً حتى من تدمير المدارس بغية تدمير التعليم وتغييب الفكر لديهم. .
لم أنسَ ذلك اليوم الذي ذهب به ولدي إلى المدرسة وهو في الصف الأول ، وبينما هم في حصّتهم الدرسيّة إذ بالقذائف تنهال من كل حدب وصوب ، وحالة من الرعب والخوف خيّمت على هؤلاء الأطفال ومعلمتهم ، وبعد عدة ساعات حتى استطاع الأهالي العثور على ذويهم ، فمنهم من ذهب لأي ملجأ قريب من المدرسة ومنهم من دُفن تحت الأنقاض ، ومنهم من إختبأ في أقرب منزل من المدرسة .
أما ابني فكان خائفاً مرتجفاً لدرجة أنه لم يستطع الكلام أو الطعام حتى صباح اليوم التالي ، فهل كلمة (الشعب يريد إسقاط النظام ) تستحق أن يُسحق شعبٌ بكل فئاته من نساء وشيوخ ، و حتى الأطفال ؟
أيّ نظام مستبد هو نظام الأسد ، لقد أصبح منظر المدارس مأساوياً حقاً ، فبعض منها مهدّم أو بلا أبواب ونوافذ ،أي تعليم سيستمر بعد ذلك ؟
على نفس السياق استمر الحال ، فالأطفال مرتهنُ دوامهم وتعليمهم حسب حالة الجوّ الخالي من الطيران أو القذائف ، فكيف سيكون واقع التعليم ونتاجه التربويّ في هذا الواقع المرير؟!
ولا تقف عند ذلك وحسب ، فالطفل أصبح مخيراً إما الذهاب لفترات متقطعة خلال العام الدراسي أو أن يترك المدرسة نهائياً .
تجوّلت في شوارع مدينتي فرأيت أطفالاً تركوا مدارسهم ليعملوا في أيّة حرفة كانت ، فبأيديهم الصغيرة يُصارعون الحديد ، وبغصنهم الغضّ يحترقون بنار القهر, ومنهم مَن كان يجمع من حاويات القمامة البقايا البلاستيكية أو المعدنية فيضعها في أكياس ويبيعها كخردوات ، لينال منها بعض الليرات القليلة علّه يشتري بها ربطة خبز أو دواء لأحد أفراد عائلته .
في ظل غياب الأب بين شهيدٍ أو معتقلٍ أو مصاب ، أخذ الطفل صفة المعيل مكان الأب الغائب على صعيد مماثل أصبح الطفل مسؤولاً عن عائلة منذ نعومة أظفاره في تأمين الطعام والدواء وربما تراه يتسوّل من المارة ، لكن لم يلتفت أحد لواقع هذا الطفل المعذب ولم تؤخذ أوضاع المدارس بعين الرعاية والاهتمام .
لاتزال بعض المدارس أنقاضاً ، وبعض المعلمين إما معتقلين أو تركوا البلاد ليهاجروا إلى بلد آمن ، فكيف لشعب أن ينهض ويبدأ عصراً جديداً في ظل غياب التعليم ؟
لكن ترى في الشمال المحرر قصة إصرار التلاميذ على مواصلة التعلم رغم قسوة الظروف وسوء الأحوال ، فلن يثنيهم البرد والقصف عن مواصلة عامهم الدراسي بكل عزيمة وهمة ، رغم أن نظام الأسد كان يستهدف المدارس بشكل ممنهج ، وخير مثال على ذلك مجزرة الأقلام في حاس ، ومجزرة جرجناز وغيرها الكثير .
كان نظام الأسد يركز القصف وإلقاء البراميل في أوقات محددة وهي الدقائق الأولى من انصراف الطلاب من المدارس ليحقق أكبر نسبة إصابة وقتلى بين التلاميذ والمعلمين على حد سواء, ليثني عزيمة شعب طالب بحريته .
قصة معاناة الشعب السوري لم تنتهِ بعد ولن ينساها التاريخ ، فقد سجلها في صفحاته السوداء المرّة, ورغم كل معاناة هذا الشعب المظلوم إلا أنه أعلن الثورة على الظلم والقهر ومواصلة العلم بكل أساليبه البسيطة والقليلة وربما المعدومة
ورغم قلّة الإمكانيات وندرة دعم المنظمات لواقع الحال في التعليم شمالي سوريا, إلا أن إصرار القائمين والطلاب والأهالي لن يثنيه أحد فيما يتعلق باستمرارية عجلة التعليم والدراسة ، فكمْ من مدرسة بين مستنقعات الطّين وكم من مدرسة كابدت برد الشتاء وحرّ الصيف في المخيمات, ورغم ذلك مستمرون ببناء جيلٍ صنع من صلابة الأيام جسراً لمستقبل الوطن .
بقلم : فداء معراتي
المركز الصحفي السوري