سأستخدم هنا حادثة صغيرة نسبيًا، لكنها ذات دلالات، كي أحلل توجهات السياسة الاقتصادية السورية خلال فترة رئاسة بشار الأسد. وتعود الحادثة لسنة 2010.
الحادثة هي صدور المرسوم رقم (19) لعام 2010 القاضي بإنهاء العمل بالمرسوم رقم (104) تاريخ 11-3-2007 المتضمن تعيين الدكتور تيسير سليمان الرداوي رئيسًا لهيئة تخطيط الدولة في سورية، أي إقالة الرداوي من منصبه كرئيس لهيئة تخطيط الدولة. وقد صدر قرار الإقالة هذا، بعد أيام قليلة من محاضرة الدكتور الرداوي، عن السياسة الاقتصادية في سورية، في “ندوة الثلاثاء الاقتصادية”، في 5 كانون الثاني/ يناير 2010. وقد حضرت تلك المحاضرة ودوّنتُ مسوّدة هذه المادة في ذلك الحين، ولكني لم أنشرها آنذاك لتعذر النشر كما تعلمون. وقد كانت ندوة الثلاثاء الاقتصادية منبرًا عامًا لمناقشة السياسات الاقتصادية وأوضاع الاقتصاد السوري استمرّ منذ ثمانينيات القرن العشرين، وكان يتمتع بهامش صغير من النقد الاقتصادي والإداري دون السياسي. لكن لم يكن أحد في النخبة الحاكمة أو الحكومة يصغي أو يأخذ بتوصيات تلك الدراسات والمناقشات أو يعيرها انتباهًا. وذلك ضمن سياسة “التنفيس” التي اتّبعها نظام الأسدَين الأب والابن.
على الرغم من أن لهذه الإقالة بُعدًا شخصيًا، فقد كان لها دلالات ذات أهمية كبيرة؛ إذ جاءت على خلفية صراع بين سياستين ورؤيتين اقتصاديتين متعارضتين. فبعد المحاضرة المذكورة، قام عبد الله الدردري، وكان حينذاك نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية (وكان يتطلع إلى منصب رئاسة المجلس) بإرسال كتاب لرئيس الوزراء ناجي العطري، ولضابط الأمن في مجلس الوزراء، بما قاله الرداوي في محاضرته تلك، ووصل مضمون الكتاب/ التقرير إلى بشار الأسد؛ فأصدر قرارًا بالإقالة العاجلة للرداوي. وسأعود لهذه النقطة ثانية.
البعد الشخصي:
سأتناول أولًا البعد الشخصي في هذه الحادثة لأنه يعكس الأجواء التي كانت تسود في أجهزة الدولة السورية. ويرتبط البعد الشخصي بشخصية الرجلين، الدردري والرداوي، حيث كانا على خلاف بسبب اختلاف طبيعة الرجلين وبسبب اختلاف توجهاتهما. فقد حلّ الرداوي عام 2007 محل الدردري في رئاسة “هيئة تخطيط الدولة”، بعد أن شغل الدردري هذا المنصب منذ نهاية 2003. وبعد أن سُمّي الدردري عام 2006 نائبًا لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية؛ صار يشغل المنصبَين معًا، وخلق ذلك حالةَ احتجاج لدى بقية الوزراء الذين ناصبوا الدردري عداءً مضمرًا، لأنه سعى لتوسيع دوره بشكل كبير، مستندًا إلى حبّ بشار الأسد لما يدعو إليه؛ فطالبوا بتخليه عن أحد المنصبَين، فتخلى الدردري عن منصب رئاسة الهيئة، لأن منصب نائب رئيس مجلس الوزراء يبقيه قريبًا من منصب رئاسة مجلس الوزراء الذي كان يطمح إليه، وقد أثار ذلك حفيظة رئيس الوزراء ناجي العطري الذي كان يرحب بكل إضعاف للدردري. وقد كان العطري هو من اختار الرداوي ليحلّ محل الدردري.
لم يمضِ زمن طويل حتى اصطدم الرجلان الدردري والرداوي، فبُعيد التحاق الرداوي بمنصبه، بدأ -بحكم عمله- يقوم بمراجعة وضع الهيئة وعملها، ونجم عن ذلك بعض الانتقادات لما فعله سلفه الدردري، من الجانبين الفني والإداري، وكانت الأخبار تصل إلى الدردري. وبعد مدة قصيرة، أكملت هيئة تخطيط الدولة إعداد تقييم منتصف المدة للخطة الخمسية العاشرة 2006 – 2010، التي أعدها الدردري سنة 2005 وتفاخر بها وأعلن نجاحاتها على مدى سنتي 2006 و 2007، ليأتي تقييم الخطة على يدي الرداوي سلبيًا، من حيث أن تلك الخطة لم تحقق أيًا من أهدافها. وقد كان تقييم الرداوي تقييمًا موضوعيًا، و كان كادر الهيئة قد أعدّ مسودة التقييم، وعقد الرداوي أكثر من جلسة لمناقشة التقرير دعا لها مجموعة من الاقتصاديين، وكنت أحد هؤلاء، وكان هذا يعاكس نهج الدردري المتكتم الذي كان يُعِدّ كل شيء في غرف مغلقة. وقد أغضب ذلك التقييم الدردري كثيرًا، كما أغضب رئيس الوزراء معه، لكون النقد موجهًا أيضًا إلى عمل الحكومة ككل، ولذلك حُفظ التقييم وطُوي ولم يُنشر.
سياستان ورؤيتان اقتصاديتان متعارضتان:
ماذا قال الرداوي حتى استفز بشار الأسد فأقاله فورًا؟
عارض الرداوي فيما قاله آنذاك السياسةَ الاقتصادية السورية التي صيغت بحسب مصالح “القطط السمان”، وهو رئيس الهيئة التي كانت تقوم بوضع الخطة الخمسية الحادية عشر 2011 – 2015، والتي تترجم النهج الاقتصادي للبلاد. وخشي الدردري، ومن ورائه أصحاب مصالح قطاع الأعمال الخاص الريعي، وعلى رأسهم رامي مخلوف آنذاك، من أن تؤدي الخطة الخمسية الحادية عشر -بقيادة الرداوي- دورًا معاكسًا للدور الذي لعبته الخطة الخمسية العاشرة، بقيادة الدردري، حيث وجّهت الخطة العاشرة، بتعليمات من بشار الأسد ومصالح النخب الجديدة، والتي جاءت على أثر المؤتمر العاشر لحزب البعث السوري سنة 2005، نهج سورية الاقتصادي نحو اقتصاد السوق بالنموذج النيوليبرالي الريعي، بينما قد تقوم الخطة الحادية عشر بقلب هذا الاتجاه نحو اقتصاد السوق، ببعد اجتماعي ودور تنموي للدولة، كما أوحت مداخلة الرداوي في الندوة.
هذا الاستنتاج الأخير خرجتُ به، عندما تأملتُ ما قاله الرداوي في تلك المحاضرة، وقارنته مع ما كان يردده الدردري، ويردده معه وزير المالية محمد الحسين ويردده آخرون، مع أن الحسين والدردري كانا عدوين لدودين، لأن كليهما كان يطمح إلى منصب رئيس الوزراء.
وفي هذا السياق، أودّ تصويب التصور الخاطئ، بأن عبدالله الدردري هو “صانع السياسة الاقتصادية السورية”، فهو لم يكن أكثر من مروّج لها، وكان يعرف ما يرغب فيه بشار الأسد ونخبة القطط السمان من “رأسمالية المحاسيب” باللغة المصرية، فردد على مسامعهم ما أرادوا سماعه، وكان يتلقى تعليماته من رامي مخلوف مباشرة، وأنجز ما يخدم مصالحهم، فقد علم أن هذا التوجه مدفوع بقوة مصالح الفئات الرأسمالية الصاعدة، التي يصبح نفوذها طاغيًا ومتحكمًا في القرار الاقتصادي، بسبب اندماج رأسمالية السوق مع رأسمالية الدولة (البيروقراطية) في بوتقة مصالح واحدة.
قال الرداوي في محاضرته “إن الهدف هو وضع رؤية لسورية 2025، وستتم مناقشة هذه الرؤية بين جميع مكونات الشعب السوري، ولا بدّ من الإجماع عليها، لأنها تتعلق بمستقبلنا جميعًا”. بينما قام الدردري بإعداد الخطة الخمسية العاشرة، من وراء ظهر المجتمع ومؤسسات الدولة، ثم وضعها جاهزة أمام القيادة القطرية ومجلس الشعب عام 2006، في جلسات شكلية رُتّبت لإقرارها. وكان الدردري، بصفته رئيس هيئة تخطيط الدولة، قد تابع مشروع سورية 2025 الذي أسسه الدكتور عصام الزعيم سنة 2001، حين كان رئيسًا لهيئة تخطيط الدولة تقليدًا لمشروع مصر 2020، وعمل فيه 264 خبيرًا سوريًا على مدى سنوات عدة، ووضعوا تصورات لسيناريوهات تطور سورية حتى عام 2025. غير أن هذه السيناريوهات كانت علمية وموضوعية وصريحة إلى حد معقول، وتجاوزت السقوف السورية، وطرحت القضايا بصراحة لا تتفق والتوجهات الليبرالية الريعية للنخبة الحاكمة، كما لا تتفق وطريقة الدردري الدعائية؛ فمنع الدردري إعلان نتائج ذاك المشروع الهام، ومنع إقامة أي ندوة حولها، ومنع الحديث في الإعلام السوري عنها، على الرغم من أنها عمل ضخم، بُذل فيه جهد كبير على مدى سنوات وشارك فيه المئات من الخبرات السورية.
عاب الرداوي على الخطة العاشرة أنها جعلت محرك الاقتصاد السوري هو الاستهلاك، لا الاستثمار، وأدى ذلك إلى زيادة معدل البطالة؛ إذ إن النمو الذي يحركه الاستهلاك، بحسب الرداوي، يكون في الأغلب من أنواع النمو غير المحابي لفرص العمل. وهذا عيب كبير في الخطة العاشرة.
كما عاب على الخطة أن سياسة التنمية غير متوازنة، وأدت إلى هجرة داخلية واسعة، وأن فترات النمو السابقة في سورية “تميزت بعدم الاستدامة، لأن قطاعات كبيرة من السكان لم تشارك في العمل، وبالتالي لم يتحسن دخلها ولم يزداد طلبها على السلع والخدمات، الأمر الذي كان سيساهم في زيادة الإنتاج”. والخلاصة أن الرداوي ينتقد ضعف القدرة الإنتاجية للاقتصاد السوري الذي أهملته الخطة العاشرة تنميته.
كان من أكثر القضايا التي مسّها الرداوي سخونةً قوله: “إن أكثر سكان سورية لم يتحسن دخلهم، وإن الثروة تنتج في الجزء الشرقي من سورية، وهو ابن المنطقة الشرقية المهملة، بينما تُنفق في الجزء الغربي منها، وإن عائدات النمو تمركزت في أيدي فئات قليلة من السكان، كان لها ممارسات استهلاكية بذخية وادخارية (وليس استثمارية) أعاقت عملية النمو، ووجهت الطلب إلى سلع وخدمات خارجية، ووجهت الادخار إلى الخارج أو إلى قطاعات ليست إنتاجية”. لذلك “فقد نما العرض خلال السنوات الماضية بشكل مضبوط، ولم ينمُ بشكل كبير، وبلغ نموه نحو 12 %، بينما نما الطلب نحو 20 %”. وهذا تناقض مع التصريحات المنمّقة والتقارير الحكومية المليئة “بالإنجازات” الخالية من طرح المشكلات.
أكد الرداوي أن الخطة الخمسية الحادية عشرة لن تحابي الطبقات الغنية، بل ستشرك جميع فئات المجتمع في التنمية الحقيقية، أي في قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية. وأنها بحاجة إلى تحقيق نمو محاب للطبقات الفقيرة بزيادة الإنفاق على التعليم، وتوجيه السياسات التعليمية وفق متطلبات سوق العمل، وضمان تحسين السياسات الضريبية والتشريعية والقانونية الملائمة للعمل، وستهدف إلى إعادة توزيع الدخل، بحيث تزداد حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي، من 36% إلى 44%، وتقليص مساحة الفقر وتقليل التفاوت بين المواطنين.
إن مثل هذا التوجه ناقض السياسة الاقتصادية السائدة آنذاك، وقد أخاف الرأسمالية الريعية، ورجُلها الأبرز آنذاك رامي مخلوف (رجل أعمال بيت الأسد وصاحب النفوذ القوي) بينما تستقبله الرأسمالية المنتجه بسرور.
بخصوص الاستثمار العام والخاص، قال الرداوي “إنه لا يزال متواضعًا، إذ لا يتجاوز 25 % من الناتج الإجمالي خلال السنوات 2006 – 2008، وأكد أنها نسبة غير كافية، إذا ما قورنت بنسب الاستثمار في البلدان المشابهة”، وفي الواقع كانت نسب الاستثمار أقلّ من 25%، ولم يرتفع معدّلها في سورية عن 18- 20% على مدى عدة عقود، بينما تحتاج التنمية إلى معدل استثمار لا يقلّ عن 30 % من الناتج المحلي الإجمالي. ويعود ذلك النقص في حجم الاستثمار، بحسب رأي الرداوي، “إلى صغر حجم الاستثمار العام، بسبب قلة واردات الخزينة العامة”. وإضافة إلى ذلك، دعا الرداوي إلى “تعزيز دور استثمارات القطاع العام، في مجالات إنتاج السلع والخدمات العامة، وإلى إعطاء أولوية عالية للاستثمار في الزراعة والصناعة، من أجل رفع نسبة مساهمتهما في الناتج المحلي الإجمالي، حتى يتم إصلاح التشوه القطاعي”. وقد تعارضت تلك الدعوة مع توجه سياسة الاستثمار النيوليبرالية التي صرّح بها الدردري، ودعت إلى تنمية القطاعات الخدمية وليس قطاعات الإنتاج السلعي التي تتميز بها سورية، ودعت إلى انسحاب الدولة كليًا من الاستثمار، تحت شعار “التشاركية” التي تعني أن القطاع الخاص يستثمر مستغلًا الدولة والمجتمع، وإلى انسحاب الدولة من أي دعم اجتماعي.
انتقد الرداوي انخفاض نسبة موازنة الدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي، بسبب انخفاض الإيرادات الحكومية، إذ لا تتجاوز 28% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة قليلة مقارنة مع الدول الأخرى. وفي الواقع الموازنة أي الخطة كانت بحدود 28% ولكن التنفيذ الفعلي كان أقل من ذلك ولم ترتفع النسية في العديد من السنوات عن 20% وأن جزءً كبيرًا منها ينفق على نحو غير منتج، أي على الجيش الكبير وأجهزة الأمن وجهاز الدولة البيروقراطي المتضخم). ويعيد الرداوي السبب إلى تدني إيرادات ضرائب الدخل.
في مجال الإنفاق على التعليم، بيّن الرداوي أن نسبة الإنفاق السنوي كانت أقلّ من المتوسط العالمي، وبلغت في سورية نحو 18 % من مجمل الإنفاق الحكومي (أي نحو 5 % من الناتج المحلي الإجمالي) وفي قطاع الصحة، رأى أن الوضع لم يكن مناسبًا أيضًا، حيث بينت السنوات الثلاث الأولى من الخطة أن الإنفاق على الصحة لم يتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة منخفضة، قياسًا إلى متوسط النسبة العالمية. وكذلك شهدت السنوات الثلاث الأولى من الخطة قصورًا في توزيع الخدمات الصحية بشكل متوازن بين المناطق. ودعا إلى زيادة الإنفاق على التعليم والصحة، وتوجيه السياسات التعليمية وفق متطلبات سوق العمل، وجعل أولويات الإنفاق الحكومي متلائمة مع أولويات خطة التنمية، وتكييف توجهات الإنفاق العام وفق معايير مفهوم التنمية المتوازنة والنمو المحابي لفرص العمل وللفقراء. وأنا أعتقد أن أصحاب السياسة الليبرالية الذين تنتج سياستهم الفقر، يوميًا، يتأبطون شرًا عندما يسمعون كلمات “توجه محابي للفقراء”.
لقد مسّ الرداوي إحدى “تابوات” السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، إذ انتقد السياسة الضريبية بمجملها، وربط ضعف نسبة الاستثمار بضآلة موارد الحكومة، بسبب تدني عائدات الضرائب نتيجة التهرب الضريبي الكبير جدًا، وانتقد انخفاض العبء الضريبي الذي يبلغ نحو 14 % فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تشمل مجموع أنواع الضرائب والرسوم التي تقتطعها الدولة. وهي نسبة منخفضة قياسًا إلى بلدان العالم، إذ تزيد على 20 % في البلدان النامية، وعلى 40 % في البلدان المتقدمة.
كما أن الضرائب غير المباشرة تشكل أكثر من نصف إيرادات الضرائب السورية، وهي ضرائب تشمل عامة الناس، ولا تشمل أصحاب الأرباح المرتفعة من رجال الأعمال. ورأى الرداوي أن الوضع السابق يوجب زيادة حصيلة الضرائب حتى تصبح 20 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يعني مكافحة التهرّب الضريبي، وأن الضرائب المباشرة في الخطة الحادية عشرة ستزداد، بينما ستبقى الضرائب غير المباشرة كما هي. وأعلن توجهه لتحسين السياسة الضريبية والتشريعية والقانونية الملائمة للعمل، والتركيز على الضرائب المباشرة، وخاصة ضرائب الدخل (الضرائب على الأرباح التي تمس أرباح القطاع الخاص المرتفعة)، بحيث يمكن المساهمة في تحقيق توزيع أكثر عدالة للدخل. وقد قلب الرداوي هنا المعادلة رأسًا على عقب؛ فقد قال الرداويهنا كلامًا مغايرًا لكلام وزير المالية آنذاك (البعثي محمد الحسين) عن ارتفاع الحصيلة الضريبية. ومعارض لتوجه محمد الحسين والدردري اللذين عملا على تخفيض ضرائب الأرباح إلى مستويات متدنية جدًا، حتى مقارنة بالدول الرأسمالية النيوليبرالية، بينما ضاعفت السياسة النيوليبرالية ضرائب المبيعات التي هي ضرائب معادية للفقراء، تأخذ من الضعيف وتعفي الغني القادر. كما أن توجه الرداوي يستنفر جبهة قطاع الأعمال الخاص الريعي ضده، وليس الحكومة وحسب.
انتقد الرداوي تدني واردات القطاع العام الاقتصادي الذي يحتاج إلى سياسة فعالة لإصلاحه، مشددًا على ضرورة إزالة المعوقات التي تقف أمام هذا القطاع، سواء كانت معوقات بيروقراطية تتعلق بالسياسات والإجراءات التي لا تساعد على نموه أو معوقات تتعلق بعدم كفاية البنية التحتية وبقاء المخاطر التي تحيط به، ودعا إلى إصلاح القطاع العام. وهذا التوجه هو توجه معارض للسياسة السائدة آنذاك التي توجهت إلى تجميد القطاع العام أولًا دون إصلاحه، وكانت تتوجه إلى تصفيته دون أن تستخدم كلمة “خصخصة”، وذلك عبر الإصرار على عدم إصلاحه وعدم حل مشكلاته، كي تكون تصفيته هي المآل الوحيد أمام الجميع ولو كره البعض. وقد بدؤوا فعلًا. وأذكر أنني -كاتب هذه السطور- قد شاركت في لجان عدة منذ 2000 حتى 2005، ناقشت موضوع إصلاح القطاع العام، ووضعت تصورات عملية، ولكن لم يؤخذ بأي منها، وبقي القطاع العام نهبًا للفاسدين المتنفذين وللخسائر الكبيرة.
طالت انتقادات الرداوي القطاع المالي والنقدي، وهو القطاع الذي قدّمه الدردري والحسين (وزير المالية) على أنه “قصة نجاح”، فقد انتقد بصراحة عدم تمكن القطاع المالي من لعب دور الوسيط بين المدخرين والمستثمرين. وانتقد السياسة الاقتصادية في سورية، من حيث إنها تهدف فقط إلى استقرار الأسعار، بغض النظر عن الهدفين الآخرين للسياسة النقدية التي تهدف بالأساس إلى مساندة السياسة الاقتصادية، وتحقيق توازن الاقتصاد الكلي، وهما تحقيق أعلى معدل نمو ممكن وتحقيق التوظيف الكامل للعمالة. ويولي الدردري والحسين الاهتمام بالاستقرار النقدي، عملًا بنصائح صندوق النقد الدولي، بينما يقول الرداوي إن استراتيجية السياسة النقدية يجب أن تكون تحفيز النشاط الاقتصادي، من أجل معالجة مشكلة الركود والبطالة. والرداوي هنا أقرب إلى السياسة الكينزية.
وجّه الرداوي نقده إلى التشويه القطاعي، بالنسبة إلى حصة قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، حيث لم تتجاوز نسبة مساهمة هذين القطاعين مجتمعين في السنوات الماضية 30-35 % من الناتج المحلي الإجمالي. كما بلغت نسبة مساهمة القطاع الزراعي مثلي مساهمة قطاع الصناعة التحويلية. في حين أن مساهمة قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية والإنتاج السلعي تزيد عن 50 % في الدول الصاعدة، إضافة إلى أن مساهمة الصناعة التحويلية تزيد عن نسبة مساهمة الزراعة في تلك البلدان. وهذا التوجه الذي يدعو إليه الرداوي يتعارض مع السياسة النيوليبرالية التي ركزت جهودها على قطاعات النقد والمال والتجارة.
كان وراء رؤية الدردري قوة كبيرة داخل النظام، بينما كانت رؤية الرداوي يتيمة، والنصر دائمًا للأقوى.
لقد تجاوز الرداوي الخطوط الحمر للسلطة، وهي كثيرة ومنخفضة، حين تكلّم بصراحة في ندوة الثلاثاء الاقتصادية، فمن غير المسموح لمسؤول حكومي ، وهو على رأس منصبه، أو حتى لموظف صغير، أن يوجه أي نقد إلى السياسات العامة، أو أن يعبّر عن رؤية أو رأي خاص يختلف عما هو معلن، فأن يتحدث في ندوة الثلاثاء خبير اقتصادي مستقل شيء، وأن يتحدث موظف حكومي رفيع شيء آخر.
ورود مثل هذه الآراء، على لسان رئيس هيئة تخطيط الدولة، يُعدّ كفرًا، في قاموس السلطة السورية. ولذلك كان إعفاؤه بمنزلة درسٍ لكل من يريد أن يتميّز، فالقيادة السورية لا تحبّ التميّز، لأنه يجتذب البريق، وقد يغري المتميّز بالطموح، وطموح الآخرين غير مسموح به. إنها سلطة الشخصيات الصغيرة.
لذلك جاءت إقالة الرداوي ، ليست بسبب خطأ إعلامي، كونه وجّه نقدًا علنيًا لسياسة الحكومة السورية وحسب، إنما السبب هو توجهاته التي عارضت توجهات السياسة النيوليبرالية التي انتهجها بشار الأسد، وقضت على ما تبقى آنذاك من السياسة السابقة، التي تأسست في ستينيات القرن العشرين بعد انقلاب 8 آذار 1963، وقدّمت حماية، ولو محدودة، للفئات الفقيرة، ولكنها بدأت بالتآكل تدريجيًا، بعد تولي حافظ الأسد للسلطة المطلقة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، ثم جاء بشار الأسد ليقضي على ما تبقى منها، وقد كان ذلك أحد عوامل الانفجار السوري العظيم، وهي عوامل كثيرة متعددة ومتشابكة.
نقلا عن ” مركز حرمون ”
https://www.harmoon.org/reports/%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b1%d8%af%d8%b1%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%af%d8%a7%d9%88%d9%8a-%d9%88%d8%b5%d9%8a%d8%a7%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a7%d8%aa/