هناك.. في السهل الذي يرفل تيها بين جبلين شامخين.. ويبدو كقطعة من الجنة.. تشكّل أحواض السمك “المسامك” أو “البحرات” لوحات تشكيلية بديعة تسرُّ الناظرين، وتأسر قلوب المحبّين لطعم السّمك اللذيذ الذي تشتهر به منطقة سهل الغاب في ريف حماة الغربي.
فما أشهى طرق طهي هذه الأسماك؟ وما أنواعها؟ وكيف تتم زراعتها؟
60 بالمئة من سكان #مخيم #فلسطين سوف يخسرون أملاكهم — المخطط التنظيمي الجديد
أشهى طرق طهي السمك في منطقة العاب:
يعدّ السمك من أشهى الأطباق في منطقة الغاب، وهو صحي وغني بالبروتين وأوميغا 3، وقد تفنن الأهالي في طريقة طهيه وإكرام ضيوفهم به ما بين القلي والشوي على الحجر، والشوي على الفحم، والشوي في الفرن، والمكمور مع عصير البندورة، ولعلّ ألذّها وأشهاها سمك الكارب المشوي بعد أن يُشقَّ من البطن، ويُنظّف، ويُحشَى بالجوز والفليفلة الحمراء والكزبرة والثوم والملح وزيت الزيتون، والقليل من عصير الليمون. وبقريه السلطة ودبس الرّمّان اللذيذ.
وقد اشتهرت المنطقة، قبل الثورة، بعدد من المطاعم المختصة بالسمك، وكان أشهرها على الإطلاق مطعم “العم نوح”.
أنواع الأسماك:
عمد بعض المزارعين في منطقة سهل الغاب إلى امتهان تربية الأسماك، في كلٍّ من قلعة المضيق والحمراء، وباب الطاقة، والحويز، والحويجة، والحواش، والعنكاوي، وقليدين، وقسطون، فحوّلوا بعضا من أراضيهم الزراعية إلى “مسامك” وزرعوا فيها أنوعا مختلفة من الأسماك؛ منها الكارب، وسمك المشط، والسلّلور، والظّاظان، ولحاس الحجر، وغيرها.
طريقة تربية الأسماك:
هناك مزارع تابعة للدولة لسنا بصدد الحديث عنها، وأخرى للأهالي، وهي مدارُ الحديث هنا؛ إذْ قام بها سكّان المنطقة بخبرات شعبية، ولكنّهم أبدعوا في هذه المهنة، ودرّت عليهم مكاسب كبيرة، وأصبح الغاب مركزا رئيسيا من مراكز إنتاج الأسماك في سوريا، وتُصدُّرُ منه الأسماك النهرية إلى سائر المحافظات، وبحسب موقع اقتصاد مال وأعمال السوريين فإن منطقة الغاب تشكّل ثالث أكبر مخزون للثروة السمكية في سوريا تقدر بنسبة 40% من الإنتاج قبل الثورة.
تبدأ هذه العملية بحفر أحواض ترابية لتربية الأسماك، تكون كبيرة وذات جدران عريضة ومصبّات لتصريف المياه، وأحواض “باطون” للتفريخ والتسويق، وحفر بئر ارتوازي أو الاعتماد على مجاري الأنهار والمصبات المائية، وكذلك تجهيز “موتور” لضخ المياه، وعدّة صيد، فضلا عن بناء مكان للناطور وللأغراض، يسمّونها “مصلحة” أو “مزرعة”.
تمرّ مراحل تربية الأسماك في المسامك أو ما يعرف بـ “البحرات” بمراحل عدّة، بحسب لقاء أجراه المركز الصحفي السوري مع ” خالد خطاب”، وهو أحد مزارعي الأسماك في قرية الحويز التابعة لسهل الغاب.
المرحلة الأولى التفريخ، وتختلف بحسب نوع الأسماك ” كارب، أو مشط”، فتفريخ الكارب يكون طبيعيا، أو اصطناعيا يحتاج عناية خاصة.
وقد تحدّث “الخطّاب” عن الآلية التي يتم فيها التفريخ الطبيعي قائلا: “تُملأ أحواض الباطون بالمياه إلى حدٍّ معيّن، ويوضع فيها بعض أغصان “السّرو” الأخضر، ونوع من الأشنيات الموجودة في الجداول والأنهار يسمى بـ” العكرش” لتكون حاضنة لبيوض السمك، وتوضع إناث السمك والذكور بأعداد معينة، وبعد وضعِ البيض يحتاج التفريخ مدة تتراوح ما بين 48_ 72 ساعة؛ لتفقس البيوض، وتبدأ بعد ذلك عملية تغذية الفراخ على بيض الدجاج المسلوق بشكل تدريجي، وبعد مضي أسبوع تبدأ التغذية بمادة نخالة القمح أيضا بشكل تدريجي؛ وتُنْقَل بعد ذلك إلى أحواض التسمين “البحرات”.
أمّا سمك المشط، فيُفَرِّخ بشكل طبيعي غالبا، ولا يحتاج إلى الطريقة المستخدمة في الكارب، وإنما توضع الذكور والإناث في أحواض التسمين مباشرة، ولا تحتاج إلى تغذية خاصة. وقد يلجأ المزارع إلى شراء فراخ السمك “الكارب والمشط” من دون الحاجة إلى القيام بهذه العملية عنده في المزرعة.
وتحدّث “الخطّاب” أيضا عن عملية التسمين، إذْ يقوم المزارع بنقل أفراخ الكرب إلى الأحواض من بداية الشهر الثالث “آذار”، في حين يتأخر نقل المشط إلى منتصف الشهر الرابع “نيسان”؛ إذْ يكون الجو أكثر دفئا، فالكارب أكثر مقاومة للبرودة من المشط.
تتم عملية التسمين “تربية الأسماك في الأحواض حتى تسمن وتصبح جاهزة للتسويق” بطريقة دقيقة وعناية فائقة، ففي كل مترين مكعّبين من الماء يوضعُ فرخ كارب واحد فقط، وأما المشط فيوضع لكلّ متر مكعّب واحد 4_ 5 فراخ.
تحتاج هذه الفراخ 6 أشهر تقريبا لتكون جاهزة للتسويق، وتعتمد بشكل رئيسي على كمية الأعلاف ونوعيتها، والمياه التي تصبُّ في أحواض التسمين.
يعتمد المزارع في تعليف الأسماك وتسمينها على “الكسبة”، و”المركّب”، و” ونخالة القمح”، وعلى “بقايا الدواجن وأحشائها” كبديل رخيص للأعلاف، وتزداد كمية العلف تدريجيا مع نمو الأسماك.
بعد انقضاء المدة المحددة يقوم المزارعون بجني المحصول، فيجهزون أحواض ” الباطون للتسويق” ويقومون بإفراغ “البحرات” من الماء، وتبدأ عملية صيد السمك بالشّباك من قبل عمّال الصّيد الذين يخرجون من بيوتهم في الصباح الباكر، والبرد القارس أحيانا، يغوصون في الماء والوحل طيلة النهار ليحصلوا على قوت يومهم.
يوضع السّمك بأقفاص ويأتي التجار إلى تسويقها في مختلف محافظات سوريا.
الصعوبات التي تواجه مربّي الأسماك:
وعند سؤال الخطّاب عن هذه الصعوبات أجاب إن أبرزها ارتفاع أسعار الأعلاف والوقود وانقطاع التيار الكهربائي، فضلا عن تكلفة تصليح المعدّات والمضخّات، وتجريف الأحواض، وغياب شبه تام للأطباء البيطريين المختصّين بالأسماك.
الثروة السمكية تدرُّ أرباحا جيّدة، ولكنّها تجعل العامل فيها يعيش على أعصابه، لأن تربية الأسماك ليست بالأمر السهل، وربما خسر المزارع المحصول كله بلحظة واحدة بسبب قلة الأوكسجين في الأحواض، أو بسبب موجة برد قارس في ظل انعدام الماء الارتوازي الدافئ.
واقع الثروة السمكية في الغاب بعد حصار قوات النظام له بعد الثورة:
أَطْبَقَتْ قواتُ النظام الخناقَ على قرى سهل الغاب بعد حصار دام لسنوات منذ بداية الثورة، أثّر سلبا على إنتاج الأسماك هناك لعدّة أسباب، منها الارتفاع الباهظ في ثمن الأعلاف والوقود وصعوبة توفّرها، فضلا عن انعدام سوق التصريف، وتدني أسعار السمك فصارت تكلفة الأسماك أكثر من المردود المادي، ما اضطر عددا من المزارعين إلى تقليل المساحات المزروعة، والاعتماد على أعلاف غير مخصصة لغذاء الأسماك، وشيئا فشيئا تدهور الموسم “الإنتاج” واضطر عدد من المزارعين إلى ترك هذه المهنة بعد أن كان إنتاج الغاب قبل الثورة قرابة 6 آلاف ظن سنويا من 350 مزرعة تقريبا، ممتدة على مساحة 6400 دونم بحسب إحدى الإحصائيات.
عمدت قوات النظام مؤخرا إلى تكثيف القصف على منطقة الغاب، وتهجير أهله الذين نزحوا عنه قسرا تاركين مراتع صباهم هناك، وأحلام طفولتهم، وثرواتهم وممتلكاتهم، لتحتلها الشبيحة وقوات النظام، فسرقت موسم الأسماك كله وباعته في الأسواق بثمن بخس، وفتحت مصبّات “البحرات” على الجداول والأنهار المحيطة وضاعت الثروة السمكية التي ازدهرت في المنطقة على مدى أعوام.
فهل سيعود أهل الغاب الكرام إلى منازلهم ومزارعهم، وأراضيهم؟ أم أنّ تلك الشّرذمة ستظلُّ تعيث الفساد بأرضنا السّليبة؟
بقلم: ظلال عبود
المركز الصحفي السوري