انتهت عطلة الصيف أخيرا، وتجدد معه أمل إكمال الدراسة، و تنامى معه شغف بناء مستقبل زاهر، في جلسة مفعمة بالحب والسعادة ،كنا أنا وأمي وأخي وأبي، نتناقش عن مصيري بعد هذا، لقد أكملت المرحلة الإبتدائية، وقريتنا كائنة في أعماق البلاد، تبعد عنها المدارس كيلو مترات كثيرة عدا الإبتدائية، فهل سيكون مصيري كصديقتي نجلاء؟ لقد تزوجت المسكينة، لا زالت طفلة تركض بين الأزقة و تلاعب الدمى !!
نظرت لأبي بنظرات حزن و أمل وترجي وقلت: ” أريد أن أكمل دراستي يا أبي و أصبح محامية يوما ما .. أنسيت؟ اكتفى بالنظر إلي ولم يقل شيئا .
هكذا ظللت متمسكة بحلمي الذي طالما رسمته منذ نعومة أضافري، انتهت الجلسة وخرج أبي وأخي للعمل في بستاننا المجاور، و ككل المرات التي مضت لم نخرج بقرار حاسم، في المساء اجتمعنا مرة أخرى على سفرة الأكل وعدت أتجاذب أطراف الحديث مرة أخرى حول مصير دراستي، شغلت التلفاز لمتابعة آخر الأخبار، لقد تم بث آخر أجل إيداع ملفات متابعة الدراسة في ربوع المملكة، يا إلهي لم يتبقى سوى يومين!!
_أمي دعينا نفعل شيئا لا أريد أن أنقطع، لا بد أن أتمم دراستي !!
نظرت إلي باستعطاف وقالت: ” لا تخافي بنيتي، سأفعل ما بوسعي، وستكملين دراستك ” .. وقعت كلماتها على صدري كمرهم، لقد أشعلت كلماتها سعادة قلبي .
_قال أبي : ” لابد قبل التسجيل أن نجد لكي مكانا آمنا، لن أخاطر “، أردفت قائلة : ” ما رأيكم أن أذهب لخالتي في المدينة، فالمدرسة هناك قريبة والمكان آمن “، بينما التمس أخي الصمت، ألقيت نظرة على وجوه الجميع، وقرأت فيهم الدهشة والفرح، هل سيقبلون فكرتي ؟ .. يا الله كن معي .
بعد هنيهة صمت، قالت أمي : ” هذه فكرة رائعة، سأهاتف أختي و أخبرها بهذا الشأن “، و كذلك قال أبي : ” إنه مكان آمن، إنها بمثابة أمك ” .
نعم هو كذلك، وأخيرا سأسافر وسأكمل دراستي، لقد قضيت على شبح الانقطاع الذي لطالما لحقني منذ بداية عطلة السنة السابقة، حمدا لله وشكره، فبعد أن لملمت أمي أغراضنا توجهنا للمحطة، وأقلع بنا القطار حوالي الواحدة، كانت رحلة جميلة جدا لم أسافر قبل هذا، استمعت كثيرا، وصلنا أخير مع السادسة مساءا لمدينة تطوان، مدينة صغيرة في الشمال، تمتاز بالجمال و النقاء يغلب عنها الطابع الأندلسي، أنها تذكرني بغرطانة تلك الأندلسية الجميلة، التي رأيت صورها مرارا، بعدما وصلنا للمنزل أخذنا قسطا من الراحة، فقد كانت الرحلة طويلة دامت ست ساعات، لم نستيقظ بعدها بقوة التعب إلا لوجبة عشاء بإلحاح من خالتي واستأنفنا النوم من جديد.
في الصباح توجهنا للمدرسة وأودعنا ملف التسجيل، وأكملنا الإجراءات الإدارية كلها، الناس هنا طيبين فعلا، تحمست للمدرسة أكثر، عدنا للمنزل مساءا، بعد أن قمنا بجولة قصيرة في المدينة، أخبرتني أمي على إثرها أنها راحلة غدا، اشتد صدري لهذا، سأبقى وحيدة هنا في المدينة دون أبوين .
لقد كان ذلك محزن جدا، لا أعلم مدى اندماجي مع هذه الحياة، صرت اتخبط بين الخوف والأمل، خوف من القادم، وأمل يشع نورا في غد أفضل، ودعت أمي في الصباح، بقلب حزين، ودموع تشق الخدين، لازلت طفلة كيف سأعيش دون أمي؟ الأمر أصعب بكثير مما كنت أضنه، الواقع مرير جدا، فكرت للحظة أن أتخلى عن كل شيء، أحزم أمتعتي وأعود ادراجي مع أمي، عانقتني أمي، وبدوري احتضنتها بشدة، ابتسمت أمي وأمسكت وجهي بيديها، وأردفت قائلة : ” ستكملين الآن دراستك،وستنجحين، رضيت عنكي يا ابنتي ورضي الله عنكي، أتمنى لك التوفيق ” .
فرحت لسماع ذلك كثيرا، واشتعل الحماس بداخلي مجددا، حقا الأم عظيمة، رحلت أمي وبقيت أتخبط مع دروب الحياة الجديدة، أحمل أمل النجاح، وأتخطى كل الصعوبات، لم يكن الأمر سهلا ابدا، لكنني فعلتها، لقد كنت محظوظة وحصلت على فرصة لتغيير حياتي للأفضل لم أقبل بالهزيمة .
لم تكن كل الفتيات محظوظات كصليحة، فقضية الهدر المدرسي فاقت كل التوقعات، خصوصا في البوادي النائية، ما يترتب عنه العديد من المشاكل، منها الزواج المبكر بالنسبة للفتيات .
صليحة أضبيب
المركز الصحفي السوري