سلام أحمد
تنحدر أماني من الغوطة الشرقية لدمشق ومن مدينة دوما تحديداً، حيث عملت محاسبة ومدرّسة قبل إصابتها، مع بداية الحملة الأخيرة على الغوطة، فقدت قدمها واستشهد خطيبها، وذلك أثناء ذهابها لأداء عملها، وعانت الكثير من المشاكل في بداية الأمر، ولكن نتيجة الظروف التي كانت تعيش فيها كان لزاماً عليها أن تتمالك نفسها، وأن تعود إلى العمل لتعيل عائلتها. حيث أن أماني المعيلة الوحيدة لعائلتها.
بعد أيام قليلة من إصابتها عادت أماني لممارسة عملها، وكانت قد انتقلت مع عائلتها إلى أحد ملاجئ المدينة، ومع بداية حملة التهجير هاجرت مع قسم من عائلتها إلى الشمال السوري، وكان من الصعب أن تستمر بالعمل كمحاسبة بسبب وضعها الصحي، وانتقلت الي قسم إدارة المشاريع لتتمكن من العمل في المنزل، وبذلك تتابع أيضاً مراحل العلاج ومساعدة عائلتها، هجّرت أماني إلى ريف حلب الشمالي وتحديداً مدينة اعزاز وأقامت فيها .
عندما تحدثنا مع أماني وسألناها عن سبب خروجها من الغوطة وابتعادها عن منزلها المهدم وجزء من عائلتها، رغم أن إصابتها لربما تحميها من التعرض لها من قبل مخابرات النظام وجيشه. كانت لأماني نظرة أمل وتفاؤل بأن القادم أجمل وبأنها ستعود الي مدينتها هي وباقي العائلات ولكن كمنتصرة.
أماني رفضت الخروج إلى دمشق للعلاج عن طريق الهلال الأحمر السوري، لأنها لا تقبل أن تداوى جراحها من قبل اليد ذاتها التي أثخنتها، وقالت: “قراري بالخروج مع المهجرين إلى الشمال السوري المحرر هو قرار شخصي لم أسمح لأحد التدخل فيه”.
حدثتنا أماني قليلاً عن إصابتها وبالذات عن يوم الحادث الأليم الذي فقدت فيه قدمها، وعن المشاهد التي شهدتها أثناء انتظارها دخول غرفة العمليات وعن تلقيها خبر استشهاد خطيبها الذي كان برفقتها.
” كانت إصابتي في يوم الخميس الواقع بتاريخ 22\2\2018 أثناء ذهابي إلى عملي برفقة خطيبي الساعة الثامنة صباحاً”، تقول أماني وتستطرد “مع العلم أن دوامي يبدأ عادةً بعد الساعة الثانية عشر ظهراً، لكن كان العمل معلقاً نتيجة الحملة الأخيرة على المنطقة، وتوجب عليّ الحضور بسبب طبيعة عملي (محاسبة المكتب وأمينة الصندوق) لتسليم مبلغ الطوارئ، وقبل وصولي إلى عملي بمسافة مئة مترٍ تقريباً سمعنا صوت الراجمة، فأمسكت بيد خطيبي الذي حاول حمايتي، وركضنا معاً، وعند وصولنا إلى الباب سقط بجانبنا ثلاث قذائف، والشظايا تتطاير واخترقت جسده قبل أن تصلني، وفي ذاك اليوم شهدت المنطقة مئة وستين قذيفة، وكانت هناك إصابات كثيرة، ثم تمّ نقلي إلى النقطة الطبية التي لا تتوفر فيها جميع الاختصاصات الطبية، و كانت المواد الطبية على وشك النفاذ، وقد استغرق وصولي للنقطة ساعة واحدة، نتيجة القصف الهمجي، فسيارات الإسعاف لم تستطع الوصول بسرعة، لكثرة القذائف، عندها اضطررنا أن ندخل المكتب، وخطيبي الذي كان برفقتي ظل في مكانه وكان قد أصيب بجروح أخرى ونزيف حاد، ولم يستطع الدخول إلى المكتب، وبعد هذا العذاب بنصف ساعة، هدأ القصف وتوجهت سيارات الإسعاف إلينا لنقل جميع المصابين الذي بلغ عددهم مئة مصاب تقريباً، وبعد أن تم نقلنا انتظرنا دورنا، ولكن بعد لحظات قليلة فارق خطيبي الحياة وفارقني، وانتظرت دخولي لغرفة العمليات حتى الرابعة عصراً، مع نزيف حاد فقدت على إثره ما يقارب ثلاث وحدات من دمي، وكان الوضع في النقاط الطبية لا يسمح بنقل الدم إلا بكمية قليلة، لسد حاجات جميع المصابين، وخرجت من العمليات عند السادسة مساءً إلى قسم العناية المشدّدة.
وفي صباح اليوم التالي لإصابتي تم إخراجي من المشفى، دون علاجي من إصابة البتر ولا من جروح الوجه والبطن، أما الشظايا والجروح التي كانت في جسدي فما زالت، وعند عودتي إلى المنزل استدعى والدي، ابن عمي وهو مسعف في الدفاع المدني ليقوم بإكمال العلاج الذي كان من المفروض أن أتلقاه في النقطة الطبية، حيث قام بإخراج الشظايا وتنظيف وتعقيم الجروح الناجمة عن الإصابة (بتر بالقدم اليمنى تحت الركبة – إصابة بالبطن – والخاصرة والوجه (تحت العين مع شظايا بالعين اليمنى) – تمزق باليد اليمنى، مع شظايا بالقدم اليسرى وحروق .
ومع هذا كله عدت إلى عملي بعد ثلاثة أيام من إصابتي، وكنا قد انتقلنا إلى العيش في أقبية تحت الأرض، بسبب الحملة الشرسة التي قام بها النظام المجرم على الغوطة، لكن لم أقف مكتوفة اليدين، بل كان هذا دافعاً قوياً لي للعودة للعمل، وبما أنني المعيلة الوحيدة لأسرتي ولأبناء أختي الأيتام، وبما أنني تعرضت لبتر في ساقي كان من المفترض أن اتابع علاجي الصحي والفيزيائي ولكن للأسف لم يكن هناك مركزاً للعلاج، وإن وجد فهو لعدة أيام فقط ، وفي الأحوال الطبيعية ينبغي الاستمرار في علاج الشخص المصاب قبل تركيب الطرف الصناعي، وأثنائه، وكذلك بعد الانتهاء منه، إضافة إلى علاج نفسي وتأهيلي، يخضع له المصاب لتأهيله وإرشاده على كيفية حماية نفسه والاعتماد على ذاته دون طلب المساعدة من أحد، لكي تزداد ثقته بنفسه ويخرج من حالة الاكتئاب التي من الممكن أن يدخل بها المصاب بسبب غياب هذه الخدمات، وبالانتقال لمرحلة التركيب نواجه عدة مشاكل أولها انه لا يوجد مراكز كثيرة تقدم هذه الخدمات مما يجعل المصاب ينتظر طويلاً.
نحو تذليل المصاعب التي تواجه النساء المصابات مشكلات إضافية للنساء الفاقدات للأطراف، أبرزها اضطرارهنَّ لانتظار مدة مضاعفة لحين حضور ممرضة من أجل أخذ المقاسات، وحرمانهنّ من متابعة عملية العلاج الفيزيائيّ، كذلك قلّة أو ندرة العلاج النفسي/ الشبحي لمثل هذه الحالات، وعدم توفر الشحنات الكهربائية لمعالجة الضمور العضلي بعد توقف العضلات عن العمل لمدة ستة أشهر، وعدم مطابقة معايير الطرف للمواصفات الصحية العالمية، مع مضاعفات قد تصل إلى تصحيح عملية البتر وذلك لتأذي الطرف من الوزن الزائد، ومن العقبات، قلّة مادة السيليكون الطبيّ، وعدم توفر مكان الإقامة والسكن الصحيّ للفاقد، وغياب مستلزمات العناية كالمراهم وغيرها.
في حين تذكر منظمة الصحة العالمية أنها تقوم بشراء وتوزيع إمدادات لتركيب أطراف اصطناعية، وتعمل على ترميم مراكز إعادة التأهيل البدني المدمَّرة.
ويفضّل المختصون مراجعة المصاب للمراكز بشكل دوري في السنة الأولى من تركيب الطرف كي لا تحدث مضاعفات له.
وهذا ما نصت عليه المادة الخامسة والعشرون من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان حول حقّ الضمان الصحيّ والعناية الطبيّة وتقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية.
إصرار أماني على البقاء ساعدها وأفراد أسرتها على التأقلم مع حالتها الصحية، تقول أن والدتها تخشى عليها من التهور بتصرفاتها كقيامها بأشياء لم تعد مؤهلة للقيام بها، رغم تعاون جميع أفراد الأسرة معها ومساعدتها في الكثير من الأمور، لا سيما عندما تكون بغير طرف وتكون مضطرة للمشي بالعكازات، الأمر الذي تعيشه أماني في مكان العمل أيضا.
طموحات وتحديات كثيرة تثقل كاهل أماني حينًا، وتساعدها على المواجهة حيناً آخر، كونها المعيلة الأولى لعائلتها برفقة والدتها، فعائلتها مكوّنة من أبٍ وأم وست فتيات وثلاثة ذكور وثلاثة أطفال ايتام ، عدا ذلك انقسام عائلتها لقسمين قسم بقي في الغوطة وقسم في الشمال السوري معها (والدتها وأختان وأخان وزوجة أخيها وطفلته)، وهو ما زاد الأعباء عليها وزاد من مسؤولياتها والتزاماتها تجاه منزلين بظروف مختلفة، الغوطة ومعاناتهم مع دخول قوات النظام وارتفاع الأسعار وفقدان كل شيء من منزل ومستلزمات الحياة، وكذلك الشمال؛ بلد جديد والبدء من الصفر، فحالها كحال جميع المهجرين لا يملكون سوى حقيبة من الملابس خرجوا بها بباصات التهجير، فضلا عن آلامها المزمنة بسبب الإصابة والتي تفرض عليها شروطا معينة في اختيار السكن تراعي حالتها الصحية، وهي مازالت تتطلع للتخلّي عن العكازات والعودة للسير كما كانت قبل الإصابة.
أماني الفتاة الحالمة والمتفائلة والمؤمنة بأن تعبها وتضحياتها، لن تضييع هباء بل على العكس ستصنع سوريا السلام والحرية، ولابد لجراحها أن تثمر وطناً عادلاً يوماً ما قريب .
المركز الصحفي السوري