هو مجد للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ولحزبها المسيحي الديمقراطي الذي هبط في الأشهر الأخيرة في الاستطلاعات، وارتفع بـ 4 في المئة. والتغيير…؟ كله بفضل كورونا. يبدو هذا كذروة التهكم، ولكنه صحيح. بالفعل، فبعد بضع كبوات وتثاؤبات إدارية في البداية، ها هي ألمانيا برئاستها صحت، وتتصدر الآن خطوات لاحتواء الوباء في أوروبا، كما قيل في العنوان الرئيس في “الفايننشال تايمز”: “مديرة الأزمات الألمانية عادت”.
الحروب والأوبئة تكون أحياناً اختبار الزعامة. وبالنسبة للحروب، اجتاز تشرتشل وبن غوريون، مثلًا، هذا الاختبار بتفوق.. وهكذا تفعل ميركل الآن في موضوع كورونا. وإسرائيل أيضاً تتصدر دولاً كثيرة أخرى في معالجة أزمة كورونا، وأصبحت نموذجاً للاقتداء في هذا الشأن حين يسير طابور طويل من الزعماء بل وقوى عظمى هائلة وهامة لا تنجح في هذا الاختبار الزعامي، ويمتد وراءها بعيداً. ولن نذكر أسماء كي لا نضر بعلاقات إسرائيل الخارجية.
في السنة الماضية عندما استقالت ميركل من زعامة حزبها وأعلنت أنها ستعتزل منصب رئاسة الوزراء في 2021، بدا أن الهالة التي كانت لها كزعيمة قومية ودولية وتعرف كيف تشق طريق ألمانيا كالزعيمة غير المتوجة لأوروبا كلها، قد وصلت إلى نهاية الطريق. في إحدى الصحف قيل صراحة: “انتهى الطريق أمام ميركل”. وكانت أسباب أفول نجمها متنوعة، وعلى رأسها فتح حدود ألمانيا أمام المهاجرين، ولا سيما المهاجرون المسلمون، مما أدى إلى رد فعل مضاد لنمو قوى سياسية يمينية متطرفة، سواء في البوندستاغ أم خارج البرلمان، بما في ذلك النازيون الجدد. وفي مرحلة معينة أيضاً… وإن كانت بدأت تضع الكوابح والحواجز أمام ميول محافل إسلامية تعمل في ظل تجاهل قوانين الدولة. وإضافة إلى ذلك بدا أيضاً بأن القاطرة التي قادت الاقتصاد الألماني على مدى عشرات السنين بدأت تتباطأ، وفي الوقت نفسه تبينت سلسلة من الإخفاقات الخطيرة، بما فيها الأخلاقية والقانونية، وفي مجال البنوك وصناعة السيارات. وربما، مثلما يحصل أحياناً في السياسة، بدأ الألمان ببساطة يتعبون منها.
وعندها جاءت الانعطافة الكبرى التي لم تكن مسجلة لدى أي محلل أو خبير في السياسة أو لدى السياسيين في حزبها شبه المسيحي، مثل آرمن ليشت، رئيس حكومة شمال الراين – وستفيليا، الولاية الأوسع سكاناً في ألمانيا، ويانس شبان وزير الصحة وأحد زعماء الجيل الشاب، وبالأساس فريدريخ ميرتس رجل الجناح اليميني كثير الاحتمالات.. الذين بدأوا يسخنون المحركات قبيل الانتخابات الداخلية بقيادة الحزب (وتلقائياً لرئاسة الوزراء، المزمع عقدها في 25 نيسان، بعد أن كانت المرشحة السابقة المحبذة من ميركل نفسها، كرامب – كرنباور، قد انسحبت من السباق. لم يأت التغيير في مكانة ميركل على مراحل، بل مثل البرق المفاجئ من سماء كورونا المتكدر؛ هكذا وقفت لأول مرة في أثناء كل 20 سنواتها كرئيسة وزراء ألمانيا، المنصب الذي انتخبت إليه خمس مرات، أمام عدسات التلفزيون كي تلقي خطاباً من 12 دقيقة للأمة، وبمجرد هذا الفعل اكتسبت ثقة متجددة لدى شعبها.
“مظهر ميركل كان هادئاً، ولكن نبرة حديثها كانت قاطعة”، كُتب في إحدى الصحف. وبعد أن عددت كل القيود المطلوبة من الجمهور (القيود المعروفة أيضاً للجمهور الإسرائيلي) واحداً واحداً، لم تترك مجالًا للشك لأنها ستصر على فرضها، بما في ذلك على نفسها. ويبدو أن الجمهور اقتنع بأن على رأسه الآن تقف شخصية ذات تجربة ونضج لازمين، وستتمكن من الأزمة الحالية، أو مثلما درج على القول عندنا: “للبيت رب”. وحتى أحد زعماء المعارضة من حزب الخُضر قال: “علينا أن نفرح بأن لدينا رئيسة وزراء مثل أنجيلا ميركل”. لقد كانت العودة كاملة الأوصاف، على الأقل في هذه المرحلة. ولكنها لم تكتف بالتصريحات: أعلنت حكومتها بشكل فوري، وبخلاف كل مبادئها الاقتصادية المحافظة السابقة عن ميزانية طوارئ بمبلغ 156 مليار يورو لدعم الاقتصاد القومي. لو كان هناك من اعتقد، قبل اندلاع الأزمة، بأن على ميركل أن تخلي مكانها حتى قبل 2021 لأصبحت أفكاره الآن معاكسة بعد الأزمة، ليس في ألمانيا فحسب، بل وفي أوروبا كلها؛ لأنها تحتاج إلى زعامتها كما تحتاج إلى الهواء للتنفس.
وثمة زاوية إسرائيلية: كانت لنا أحياناً خلافات مع حكومة ميركل، ولا سيما في موضوع استمرار النشاط الاقتصادي مع إيران وجوانب مختلفة في المسألة الفلسطينية التي عملت حولها وفقاً لخط الاتحاد الأوروبي الدائم، وإن كانت بعيدة عن أن تكون رأس الحربة في هذا السياق، ولكن من جهة أخرى كان هناك سجل طويل السنين للتعاون الأمني (الغواصات) والاستخباري، والموقف الإيجابي من كفاح إسرائيل ضد الإرهاب. لقد كان لميركل تماثل نفسي عميق وحقيقي مع مصير الشعب اليهودي والتزام بمستقبل دولة إسرائيل. وسواء ستواصل تولي منصبها أم ستعتزل في ضوء حالة الطوارئ الحالية، فإن منظومة العلاقات هذه بين الدولتين ستستمر ونأمل ذلك بإلهام من روحها ونشاطها.
نقلا عن القدس العربي