إن أنقرة أمام استحقاق هام , يجعلها تقف على تقييم شركائها على الجانب السوري الذين أثبتوا فشلهم كحاضنة شعبية
وكرجال سياسة , فالجوهر الخلافي الذي يجب على أنقرة أن تلمسه , هو أن الفرق شاسع بين ” العدالة و التنمية ” الإسلامي الطابع في تركيا
و بين حركات الإسلام السياسي في سورية التي لم تنتج سوى فوضى القرار و الهدف و ما ترتب عليهما من تمزيق للصف و اصطفافات و اتنماءات
ضيقة , و أثبتت أنها أوصلت الثورة السورية إلى مكانٍ لا ناقة للشعب السوري فيه و لا جمل , و أنتجت حالة فصائلية في أمس حاجة الثورة
إلى التنظيم العسكري الموحد المعتمد على الكفاءات العسكرية لقيادة العمل العسكري .
إن النقمة الشعبية على المؤسسات التي أفرزتها أحزاب الإسلام السياسي في سورية إبان الثورة , أكبر دليل على الرفض الشعبي لهذه المفرزات و أدواتها التي لم
تستطع أن تقنع الشعب السوري بجدواها , بل ذهبت أبعد من ذلك لتختصر رجال السياسة و الثورة السورية في شخصها و فكرها , فرأينا مسلسلات جنيف و الأستانة
التي تحولت إلى ما يشبه المسلسلات المكسيكية الطويلة التي لا تنتهي , بالتزامن مع فقدان المدن السورية الواحدة تلو الأخرى تهجيراً لسكانها و تغييراً للتركيب الديموغرافي
في الجغرافية السورية .
لتعيد أنقرة حساباتها فيما يخص شركاءها على الجانب الآخر من الحدود , و إلا ستكون النتيجة فوضى كما هي الفوضى الحاصلة اليوم في مناطق درع الفرات
التي لم تستطع بعد مرور سنة من تحرير جرابلس و أشهر من تحرير مدينة الباب أن تقنع السوريين بالعودة إليها , ناهيكم عن العصابات المختصة بالسرقة و القتل
المنتشرة دون حسيب أو رقيب , مما ولد ردة فعل سلبية حقيقية عند المواطنين في هذه المناطق, الذين صدموا و خابت آمالهم , فقد كانوا يأملون بالأمان و السلام
و الازدهار ليجدوا أنفسهم تحت رحمة قطاع الطرق و اللصوص و عصابات الإجرام , باعتراف غرفة عمليات ” حوار كلس” التي أطلقت قبل أيام عملية لتنظيف
مناطق سيطرة ردع الفرات من هذه العصابات , مصدرةً بيانين يتعلقان بهذا الشأن .
لا يمكن للإنسان دون فكر واضح أن ينتج عملاً مثمراً , و الفكر يحتاج لأهليه المتمرسين فيه , المدركين للأبعاد الآنية و المرحلية ” القريبة و المتوسطة ” المدى منها
بالإضافة للأهداف المستقبلية البعيدة .
تطل علينا كل يوم منصة جديدة و دعوة جديدة لمؤتمر هنا و هناك , و اختزالٍ رهيب للشعب السوري بأسماء و شخصيات بعينها , حتى بتنا نجد أنفسنا
أمام سوق للانتقالات السياسية , تشبه إلى حد بعيد تلك التي في الأندية الرياضية , مع فارق جوهري ألا و هو أن الانتقالات في الرياضة تحت سقف قانون اللعب
النظيف , أما في الحالة السورية فهي بلا سقف و بلا أرضية , لا حاضنة شعبية لهذه المنصات أو المؤتمرات التي اتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي
منبراً لها لتحرر و تبني سورية عبر منشور هنا و حدثٍ هناك !
الأمر يستوجب التحرك السريع , انطلاقا من المدن منفردة وصولاً لكامل المساحة المحررة , بحيث يصار إلى مبدأ الكفاءة في القيادات لا الانتماء السياسي , بحيث تسلم
إدارة المدن للكفاءات من أهلها , مع تفعيل الأمن بصورة حقيقية تضمن سير عمل الإدارة وفقاً لمصلحة المدينة .
بعد عام على تحرير جرابلس , إدارة مترنحة , سرقات و عمليات خطف و حواجز للنهب و السلب و التهريب , لم يعد المواطن في جرابلس يأمن على نفسه
رغم وجود الشرطة الحرة في المدينة , انتشار السلاح بشكل لم يعد يطاق, و العبثية الكيفية في التعامل مع المواطنين من قبل بعض المحسوبين على العسكرة أوصلت المواطن
إلى خيبة أمل مدوية .
و لعل ما جرى في مخيمات النازحين في ريف جرابلس هو أبرز مثال على غياب الاستجابة الفاعلة و التخطيط السليم , تلك المخيمات التي أجبرت ظروف الحياة فيها قسماً كبيراً
من أهالي حي الوعر الحمصي على العودة لحي الوعر تحت سيطرة عصابات الأسد بعد أن خاب أملهم و لم يجدوا في هذه المخيمات ما يعينهم على الحياة و الصمود و هم في قمة آلمهم
و جرحهم ندي ينزف من مرارة التهجير و قبلها من مرارة الحصار !
لا أدري لم لا يتم تفعيل الخيارات البسيطة التي توفر على الإدارة و على الناس الوقت و المال !
يكفي مدينة كجرابلس أو كالباب 15 دورية شرطة مكونة من 4 عناصر في كل دورية , بالإضافة لكاميرات مراقبة في كل شارع , تكون هذه الكاميرات موصولة بشكل مباشر
بغرفة أمنية يديرها جهاز الأمن الثوري في المدينة , يضاف إليها كاميرات مراقبة على كل حاجز رسمي في الريف بما يمهد لإزالة كل الحواجز الأخرى التي
أمعنت سلباً و نهباً و إيذاءاً و تسلطا , بحيث يصار إلى توفير الأمن و الذي بدوره يوفر الأرضية الحقيقية الصالحة للعمل الإداري و بشكل خاص للجهاز القضائي .
آلاف الضباط المنشقين , ينتظرون من يأخذ بيدهم لتشكيل جيش وطني يعتمد على الخبرات الأكاديمية , يقوم على أسس صحيحة تتمثل في إنشاء أكاديمية عسكرية
لتخريج الضباط وفق أسس علمية , تضمن سلامة الرؤية العسكرية , و تأخذ بعين الاعتبار ضم المقاتلين جميعهم في صفوفها و إعادة تأهيلهم ليكونوا ضباطاً
يتخرجون من الأكاديمية العسكرية و هم يحملون الفكر العسكري الحقيقي الذي يضاف للخبرات التي حصلوا عليها بعد 6 سنوات من الكفاح المسلح.
إن إعادة الحياة المدنية الحقيقية للمناطق التي حررتها غرفة عمليات ” درع الفرات ” يعني بشكل مطلق عودة أعدادٍ كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا
للاستقرار و العيش في هذه المناطق , خاصة في حال توفير مستلزمات و مقومات الحياة المدنية و توفير فرص العمل فيها بما يضمن للعائدين و المقيمين حالياً سواء
القدرة الشرائية لتأمين حوائجهم اليومية .
يمكن لجرابلس أو الباب أن تتحولا إلى مدنٍ نموذجية بأقل الجهود , الأمر يحتاج إلى قرار حاسم صارم إيذاناً ببدء تفعيل إعادة تأهيل المدينة مما سيمهد الطريق
أمام استثمارات هائلة في مجالات البناء و الاتصالات و تجارة البضائع , مما سيعود على خزينة هذه المدن بأموالٍ تصب في تقوية عصب الاقتصاد , و تنقلها
من مدن تعتمد على الاقتصاد التركي و ترهقه إلى مدن تتمتع بقوة اقتصادية و شراكة تجارية مع تركيا .
د. زهير حنيضل