تسارع الأحداث في الغوطة الشرقية بريف دمشق، حيث يستمر الناس في الخروج، منذ أيام عدة، في تظاهرات مسائية، رافعين شعارات مناهضة لبعض الفصائل المسلحة وقياداتها، وإن تصدرها قائد “جيش الإسلام”، منددين بالتجار وغلاء الأسعار، ومطالبين بالإفراج عن المعتقلين وكسر الحصار وفتح الجبهات، في مؤشر على بذور ثورة جديدة في الغوطة.
في المقابل، أعلنت بعض الفصائل، تحديداً “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، في تصريحات لـ”العربي الجديد”، أنها تضمن حماية التظاهرات السلمية، التي جرى التعدّي عليها قبل أيام، محيلةً أمر الإفراج عن المعتقلين إلى القضاء، خصوصاً أنه يرتبط بعناصر متهمين بالانتماء إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”، حسب قولهم.
وطالب أهالي الغوطة، من خلال المسيرات التي خرجوا فيها، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بإطلاق سراح المعتقلين لدى الفصائل المسلحة، وتحويل المتهمين منهم إلى القضاء الموحد، خصوصاً المعتقلين في ما يسمى “سجن التوبة” التابع لـ”جيش الإسلام”، وتسليم المعابر وإدارة المناطق إلى هيئات مدنية، على أن يتوجه السلاح إلى الجبهات. مشددين على ضرورة رفع الهيئات الأمنية يدها عن الناس، ووضع حد للتجار المتحكمين في لقمة عيشهم، أمثال من يلقبون بـ”الزحطة والمنفوش”، إضافة إلى فك الحصار عن الغوطة، عبر فتح معارك حقيقية مع القوات النظامية. متهمين الفصائل المسلحة بالانشغال بالعمل على فرض سيطرتها داخل الغوطة وتجارة المعابر، متقاعسين عن الجبهات.
من جهته، وجّه رئيس رابطة علماء الشام، الشيخ أسامة الرفاعي، رسالة إلى “ثوار الغوطة” ناشدهم فيها أن “يكف بعضهم عن بعض”، معتبراً ما جرى في الغوطة من “نزغة الشيطان”، مطالباً جميع الفصائل المسلحة بأن “يعرضوا جميع السجناء على المحاكم الشرعية، وتبييض السجون، فلا يبقى في قلوب أهل الغوطة شيء عليهم، فلا يدعون أحداً في السجون دون محاكمة، سواء كانوا ظالمين أو جواسيس، فهم أبناؤنا ولهم منا العدالة والرحمة”.
وتعاني الغوطة من حصار شديد، منذ أكثر من عامين، عمد النظام خلالهما إلى اعتماد سياسة التجويع حتى التركيع، فمنع دخول المواد الغذائية لفترة من الزمن، ثم سمح بإدخال الحد الأدنى من حاجاتهم الأساسية، بأسعار مضاعفة تصل في بعض السلع إلى عشرة أضعاف سعرها في مناطق النظام، وذلك عبر عدد من التجار الوسطاء المقبولين من قبل الأخير.
وتسيطر الفصائل المسلّحة على معابر مخيم الوافدين، إضافة إلى عدد من الأنفاق، التي تستخدم لإدخال المواد الغذائية والطبية إلى الغوطة عبر تجار وسطاء. وأفادت مصادر مطلعة، لـ”العربي الجديد”، بأن “النظام ينظر إلى المناطق المحاصرة كمناطق استثمار رابحة، باعتبارها مصدرا للقطع الأجنبي، إضافة إلى أن القوات النظامية والأجهزة الأمنية المحاصرة للغوطة تتقاضى عشرات ملايين الليرات جراء السماح بدخول المواد الغذائية.
ويتحدث أهالي الغوطة عن الوضع المزري الذي وصلوا إليه عقب أكثر من عامين، بمرارة وحرقة، فالفقر سكن بيوت أهلها، إذ إن الغالبية تتناول وجبة واحدة في اليوم، إن وجدت، وغالباً لا تكون كافية لسدّ جوعهم. ويصطف الأهالي لساعات أمام المطابخ الخيرية أملاً في الحصول على ما يسدون به جوعهم، كما أن البطالة متفشية وتقارب الـ90 في المائة، بحسب تقديرات ناشطين، والغالبية الساحقة استهلكت مدخراتها ولم يعد لديها مورد مالي، إضافة إلى سوء الرعاية الصحية، وشبه توقف التعليم.
وعند خروج التظاهرات، أطلق حراس منزل قائد “فيلق الرحمن”، أحد الفصائل المسلحة في الغوطة، النار على المتظاهرين في بلدة حمورية، ما تسبب في سقوط قتيل وعدد من الجرحى، الأمر الذي زاد من غضب الناس، خصوصاً أنه أعاد إلى ذاكرتهم كيف تعامل النظام مع مطالبهم مع بداية الحراك السوري، فقاموا باقتحام المنزل وضربوا قائد الفيلق الملقب بـ”أبو النصر”، ثم سلموه إلى القضاء الموحد، ليخرج عقب ساعات، متعهداً بمحاسبة مطلقي النار وتسليمهم للقضاء.
كما أصدر الفيلق بياناً أعلن فيه عن التزامه بالأهالي وعدم تخليه عنهم، قبل أن يضيف “لكن الدنيا تغيرت عليهم، فلا تكونوا عوناً لشياطين الإنس والجن”، متحدثاً عن إسهامه في تأمين أطنان من المواد الغذائية ودوره في تخفيض الأسعار، ودعم المشافي والنقاط الطبية.
لكن لم تلق وعود “أبو النصر” وبيان فيلقه، أصداء إيجابية بين أهالي الغوطة وناشطيها، الذين أخذوا يشبهونه بخطاب النظام مع بداية الأزمة، وأنه منة للناس، ولا يوجد به ما يخفف عنهم.
في المقابل، راح عدد من الناشطين الإعلاميين المقربين من الفصائل المسلحة في الغوطة في القيادة العسكرية الموحدة، يسوقون بأن التظاهرات التي تشهدها الغوطة، هي مؤامرة من حزب “التحرير”، وهو حزب إسلامي متشدد، إضافة إلى “جبهة النصرة”، في وقت لم يصدر أي تعليق رسمي.
ويسود العلاقة بين القيادة الموحدة، التي يرأسها زهران علوش، من جهة، وحزب “التحرير” و”جبهة النصرة” من جهة ثانية، توتر وعدم ارتياح، إذ رفضت “النصرة” الانضمام إلى القيادة الموحدة والقضاء الموحد، وأنشأت قضاء شرعياً خاصاً بها، في وقت سعى فيه علوش إلى تزعم المنطقة الجنوبية بدعم دولي وإقليمي، حاملاً راية محاربة الإرهاب، وفي المقدمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، إضافة إلى “جبهة النصرة”، المصنفين على أنهما منظمتان إرهابيتان، قبل أن يتم زيادة الضغط على النظام للقبول بالتسوية.
ورأى ناشط مدني من الغوطة الشرقية، طلب عدم نشر اسمه، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الغوطة مقبلة على ثورة جديدة مجهولة النتائج، وهي متعلقة بما ستفعله الفصائل المسلحة أمامها، فإن كان خيارهم كخيار النظام في قمع الناس بالنار والحديد، فستنهار الفصائل وتخسر حاضنتها الشعبية، وتكون قد قدمت خدمة مجانية للنظام، عبر إنهاء نفسها بيدها، جراء تراكم الممارسات الخاطئة”.
وتابع “أو أن تكون هذه التظاهرات منبهاً للفصائل، ينتفضون عقبها للعمل الجاد الصادق في التخفيف عن الناس ووضع حد للتجار شركاء النظام، وإطلاق سراح الناس، وتشكيل إدارات مدنية لإدارة المدن والبلدات، وحصر عمل السلاح على الجبهات وحفظ الأمن”.
ولفت إلى أن “الصراعات الداخلية بين الفصائل والعمل على تمكين سيطرتها، جعل همها الأول أن تحافظ على قوتها لما بعد سقوط النظام، فتحصل بذلك على حصة أفضل في المستقبل، وهناك فصائل تقدم نفسها على أنها محاربة التنظيم والإرهاب، وعينها على التمتع بشرعية إقليمية ودولية، وكل ذلك بوصلته السلطة وليس المواطن السوري”.
ردّ الفصائل
في المقابل، قال المتحدث باسم “جيش الإسلام” النقيب إسلام علوش، لـ”العربي الجديد”، إن “من ثوابت جيش الإسلام عدم الإنكار على الناس تظاهراتهم أو احتجاجاتهم السلمية، بل هي ظاهرة صحية تنبه أصحاب القرار إلى أخطاء قد تقع دون أن يلقوا لها بالاً”.
ولفت إلى أن “التظاهرات تركز على قضيتين رئيستين: الأولى خاصة بالمعتقلين في السجون، وهي قضية تخص “جيش الإسلام”، إذ إنه الطرف المسؤول عن اعتقالهم بأمر قضائي طبعاً، لكن لماذا اعتقلوا؟ وهل يجب إطلاق سراحهم؟ هذا ما يقرره القضاء، خصوصاً أن القضية متعلقة بتنظيم الدولة، وأي تصرف خاطئ من قبل جيش الإسلام سيكون له ارتدادات على أمن الغوطة”.
وتابع “والقضية الثانية: موضوع الحصار والفقر والجوع، وهذا أمر لا يتحمل مسؤوليته المباشرة “جيش الإسلام” أو أي من الأطراف والفصائل العاملة في الغوطة، بل من المعيب اتهام الفصائل التي تقدم كل يوم خيرة شبابها على أسوار الغوطة دفاعاً عن أهلهم. وإنما المسؤولية تقع على النظام المجرم وعلى المجتمع الدولي المتواطئ في جريمة حصار وتجويع المدنيين في الغوطة”.
وقال إن “جيش الإسلام ضحى بجزء من دوره العسكري، كي يساهم في إيجاد حلول عديدة ومبتكرة لمشكلة الحصار ونقص الغذاء والدواء وغلاء الأسعار”.
بدوره، أوضح المتحدث باسم “فيلق الرحمن” محمد أبوعدي، في حديث لـ”العربي الجديد”، سبب الاعتقالات التي يقومون بها، قائلاً إنها “غالباً ما تكون ذات دواع أمنية، ولا نقوم بأي عملية اعتقال مدنية، فهذا من شأن القضاء، وغالبية معتقلينا ممن بايعوا تنظيم الدولة سواء جهراً أم سراً، ومنهم من تورط في التعامل مع قوات النظام”.
وعن دورهم في قضية غلاء المعيشة، قال “نحن نعمل كفيلق في اتجاهين: الأول عسكري يهدف إلى حماية المدنيين في المناطق المحررة من قوات النظام، بصدّ حملاته المتكررة على الغوطة الشرقية، ومن التنظيمات التكفيرية كالتنظيم. والجانب الثاني إنساني، وقد استطعنا كسر احتكار التجار للمواد الغذائية، وتهديد مصالح تجار الحروب وتجار الدم، عبر كسر أسعار المواد التي يحتكرونها من مواد غذائية ومحروقات، فمثلاً وصل سعر كيلو البرغل إلى 2000 ليرة سورية، واستطعنا توزيعه بـ275 ليرة سورية”.
وأوضح أن الفيلق ينظر للتظاهرات “على أنها ممارسة للحريات ضمن المناطق المحررة، إذا كانت لا تضر بالممتلكات العامة والخاصة، ولا تهدف إلى زعزعة أمن وأمان المناطق، ونتعامل معها وفق مبدأ حماية التظاهرات السلمية”. لكنه لفت إلى أنه “بالنسبة لمن يحرّض ويؤجج هذه التظاهرات.. نأخذ بعين الاعتبارات كافة الاحتمالات المطروحة”.