“كانت ليلةً قاتمة السواد لا ريح فيها ولا ضوء، أو أنني رأيتها كذلك حين تلقيت اتصالاً من خطيبي الذي أخبرني في تمام الساعة الثامنة مساءً في تاريخ ٨/١٠/ ٢٠١٩، إنه قرر الانفصال لأنه لا يستطيع الاستمرار أكثر”.
كانت سمية السمراء ذات الوجه المستطيل والطول الفارع في السنة الأولى من جامعتها حين استُهدِفت مدينتها معرة النعمان لأول مرة بقذائف الهاون، حيث حديقتها الجميلة وبيتها المتواضع المؤلف من ثلاث غرف صغيرة وفسحة لا تتجاوز الثلاثين متراً، تسميها سمية حديقتها الخاصة، فتقول: “كانت حديقتي تحتوي أكثر من ٤٥ نوعًا من الأزهار الجميلة معظمها نادر في منطقتنا، كنت أذهب إلى مهرجانات الزهور في كل محافظات سورية لأنتقي أزهاراً زاهية أضعها في حديقتي مثل الأقحوان والياسمين الأصفر والمرجان والقرنفل والتوليب والنرجس، كانت تحتاج عناية خاصة كنت أسقيها بماء الأرز والبطاطا”.
وتضيف: كنت أضع كرسيي البلاستيكي ذو اللون الأخضر مع طاولتي الخشبية البسيطة فهي عبارة عن جزء من جذع شجرة متوسطة الحجم وأجلس بانتظار رسائل خطيبي خالد كل يوم.
تدرس سمية في كلية الآداب قسم التاريخ حيث التقت في جامعتها لأول مرة بالشاب الذي فاجأها بعد مدة قصيرة من المعرفة وتقدم لخطبتها، لكن الحرب التي لا تعرف المشاعر لم تدع الحبيبين يرسمان طريقهما كما خططا على الطاولة الخشبية تلك، وأبت إلا أن تنالهما بسعيرها وتترك فيهما أثرها .
تقول سمية : على طاولتي الخشبية قررنا أنا وخالد أن نقيم حفل زفافنا في منزل أمه الذي كان عبارة عن بناء أثري قديم، بيتٌ من طين وحجارة دائري الشكل ورأسه مدبب كقبعات عيد الميلاد، يسمى في مسماهم القُبة، لونها يشبه الزبدة ومن حولها أراضٍ زراعية كثيرة وأشجار وأزهار وأنا أحب الأزهار كثيراً.
وهنا تسكت قليلاً وتتنهد وكأنها تتمنى أن ترجع إلى تلك اللحظات، ثم تكمل وتذكر كيف كانت تلتقي مع خطيبها ويدرسان معاً ويعانيان من وعورة الطريق الدراسي حينها ،حيث كان مدججاً بالاشتباكات والحواجز والاعتقالات التعسفية وحالات الخطف .
الحرب تغير المسار
لا تنفك قذائف المدفعية والصواريخ بعيدة المدى عن الهطول كالمطر فوق رؤوسهم في مدينة معرة النعمان في أواخر عام ٢٠١٧، فاحت رائحة الموت في كل مكان، لا بد من قرار حاسم لا بد من حلول.. هنا بدأت تتساءل في حيرة مع نفسها إلى أين المفر ؟؟ وإلى متى على هذا الحال نبقى؟؟.
تقول: دخلت في موجة من الهذيان والاضطراب، تساؤلات تأكل ذهني وخوف يقطع شرايين قلبي، هل سأموت بعد لحظة، خالد بخير! ثم أصابتني نوبة من الصراخ من شدة رعبي عقب قذيفة وقعت قريبة هدمت جدار منزل جيراننا المجاور بيت أم أحمد، ليدخل ابن عمي والذي يسكن بنفس شارعنا، ويقول : اهدئي قليلاً الوضع لم يعد يطاق سنخرج كلنا إلى أوروبا.
وتكمل : في تلك اللحظة توجهت بسرعة إلى هاتفي لأخبر خطيبي أننا يجب أن نرحل معاً لنعيش حياتنا بأمان، ليوافق خالد على قراري متمسكاً بي لا بالأمان، ثم هرعت وعائلتي لنجهز أمتعتنا ونخرج إلى مناطق ريف حلب الشمالي، وأخذت أمي بالنواح والنحيب، أما أنا ولأنني تفاءلت قليلاً أردت أن أخفف عن أمي فقلت لها:
_ماما أنا لا أجد حقيبة مناسبة لبعض أغراضي الثمينة هلا خيطتِ لي واحدة على عجل.
_أعلم أنكِ تريدين أن تخففي عني لكن الأرض غالية ستعرفين فيما بعد.
وأضافت سمية: وفعلاً خيطت لي أمي حقيبة صغيرة حسب طلبي، كانت عبارة عن بقايا قطعة قماش مخملية لونها أسود ذات سحاب بني ويد قصيرة، لكنني لم أعلم أنني سأحمل فيها خيبتي طوال حياتي.
وتصف سمية الرحلة بأنها كانت قاسية ودامت لأيامٍ وليال طويلة حيث خرجوا إلى مناطق الشمال السوري دون وجهة محددة، وبسبب كثافة النازحين كان من الصعب العثور على منزل للإيجار بسرعة، ومن منزل إلى آخر ومن قرية إلى أخرى حتى وصلوا لقرية قرب الحدود السورية التركية، ليدخل والدها وبعض من الأقرباء الشبان بعد ذلك بطريقة غير شرعية بدايةً إلى تركيا، ثم توجهوا مباشرة إلى ألمانيا، حيث فُقِدوا لمدة يومين بين الغابات وأمضوا قرابة الشهر يركضون من غصنٍ إلى غصن تائهين لا يعرفون دربهم من أين، حيث تخلى عنهم الدليل أو كما يسمى “المهرب” في وسط الطريق، لتتلقى سمية اتصال هاتفي مبشر بعد شهر كامل من المعاناة والانتظار:
_ ألو ..كيف حالك يا ابنتي نحن وصلنا وجهتنا وبدأنا بالعمل على أوراقنا بالنمسا، ادخلي إلى تركيا ريثما أجهز وأرسل لكم أوراق لم الشمل.
ثم تضيف: كعادتي قبل أن أفعل أي شيء أخبرت خالد بكل خطوة، أخبرته أننا سندخل وقال لي أنه سيلحق بنا مباشرة ودخلنا بعد ذلك إلى تركيا ولكن خالد حاول الدخول إلى تركيا أكثر من ست مرات ولكن محاولاته باءت بالفشل، وخلال المحاولة السابعة قبض عليه حرس الحدود.
قرارات مصيرية
بدأت في حياة سمية رحلة جديدة بعد أن أمضت عدة أشهر في المنتصف، تنتظر خبراً من أبيها يلم شملهم في بلاد اللجوء، أو خبراً من حبيبها العالق على الحدود في سوريا.
ثم تجري معاملة لم الشمل وتتأهب سمية للرحيل، كانت حينها تقف بين اختيارين إما تنتظر خالد في تركيا أو تسافر إلى موطن الأمان كما اعتبرته، حيث لا قصف ولا تهجير ولا أصوات للمدافع.
تروي من جديد: لقد اتخذت قراري بالسفر على اعتبار أن خالد سيلحق بي مجرد وصوله إلى تركيا ، وانطلقنا بعدها، وهناك في المطار لبسني ثوب من الكآبة كأن غمامة أحاطتني، رأيت كل الأشياء من حولي بلونٍ غامق ومصفر.
وتضيف: ركبنا الطيارة كانت أول مرة في حياتي أسافر بها جواً، لحظات تكتم الأنفاس قلق يتملكني .. في تلك الدقائق القليلة ريثما أقلعت الطائرة شعرت بخوف يعادل خوفي لعدة سنوات عشتها تحت القصف في منزلي، شعرت بأنني اقتلعت روحي ورميتها نحو الاتجاه الذي اعتقدت أنه سوريا، سوريا حيث خالد لازال هناك، وأزهاري وطاولتي.
وتضيف: وتمضي على هذا نحو سنة ونصف وأنا بين معاناة الاندماج وتعلم اللغة، وحفظ القوانين، وبين خالد الذي تعرض للضرب من قبل الشرطة التركية أربع مرات خلال محاولته الدخول.
شعرت بسمية كيف ارتبكت خلال مكالمتنا الهاتفية ، بدا صوتها خافتاً أكثر مشحوباً بالعبرة، فقد بدأت تروي الجزء الأكثر صعوبة في قصتها تلخص لحظة حسمت كل شيء .
اتصال لقطع التواصل:
تقول سمية: كانت ليلةً قاتمة السواد لا ريح فيها ولا ضوء، أو أنني رأيتها كذلك حين تلقيت اتصالاً من خطيبي الذي أخبرني في تمام الساعة الثامنة مساءً في تاريخ ٨/١٠/ ٢٠١٨، قال إنه قرر الانفصال لأنه لا يستطيع الاستمرار أكثر وأنه قد فقد الأمل من دخول تركيا، قال في نهاية اتصاله: وداعاً حبيبتي سمية أرجو أن تعيشي حياة جميلة هادئة.
وتكمل: انتهى كل شيء يومها وجردتني الهجرة من حق أن ألبس خاتم خطبتي، أخذته ووضعته في الحقيبة الصغيرة الحمقاء التي طلبتها من أمي، ليرقد فيها حتى اليوم وإلى الأبد.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/603403098034883
لم تكن سمية الضحية الأولى لانقطاع العلاقات الاجتماعية بسبب اللجوء والهجرة والحرب، لكنها كانت حكاية تصلح لأن تكون دليلاً قاطعاً يدين الحرب في محكمة الحياة الدنيا والآخرة.
نور زيدان
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع