إلى جانب البقيّة الباقية من قطاع الزراعة، أصبح الاتجار في الوقود، والبنادق، وحتّى البشر، النّمط السائد من النشاط الاقتصادي في معظم أنحاء سورية. هذه التجارة، كما يقول الكاتب، باتت، أيضاً، عملاً مجدياً للمليشيات الموالية، فالجماعات المسلّحة، التي تنضوي تحت راية الأسد ظاهريّاً، قد تعلّمت بسرعة استغلال اختناق الاقتصاد المحلّي لتحرير نفسها من وصاية دمشق، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بواحدة من أكثر السلع قابليّة للاتجار: الوقود.
أحد الأمثلة التي يوردها المقال لتبيان ذلك، هو الحادث الذي وقع في حماة هذا الصيف، فقد عثرت القوات العسكرية السورية على عدّة شاحنات من النفط المهرب وهي في طريقها إلى مناطق “الدولة الإسلامية” (داعش). وخوفاً من انتقام طلال دكاك (التاجر المسؤول عن الشحنة غالباً)، سلّم الضباط السوريون شحنة الوقود بسرعة لإدارة المخابرات الجويّة المحلّية، بدلاً من مصادرتها، وعند هذه المرحلة، كما يقول مصدر مطّلع في حماة لكاتب المقال، اختفت الشحنة مرّة أخرى.
الحصار الاقتصادي
ولكونها لم تكن دولةً نفطيّة قطّ؛ فإنّ مبيعات النفط كانت تشكّل أكثر من 25% من عائدات الحكومة قبل الحرب الأهليّة، وكانت مسؤولةً عن جزء كبير من احتياطات النقد الأجنبي في البلاد. لكن بعد سنوات من الحرب فإن قطاعات الاقتصاد القياديّة في البلاد، لا سيما قطاع الكربوهيدرات، قد انهارت بالمجمل، وفي هذا الصيف، فجّر مسلّحو “داعش” آخر منشآت الغاز الرئيسية التي كانت عاملةً في البلاد، ما أدّى إلى تفاقم الوضع المتدهور أصلاً.
الانهيار المالي والاقتصادي المتسارع في سورية لم يقضِ على المدّخرات، ويقلّص الأجور، ويترك الملايين بين براثن الفقر فحسب؛ بل أيضاً قاد إلى انهيار دراماتيكي في العملة، كما أنّ تأثير التضخم على التجنيد العسكري كان بالغاً.
انخفاض العملة استتبع آثاراً ثانويّة أخرى، كما يورد المقال، فقد أصبحت واردات السلع، بالمعدّلات الحالية، باهظةَ التكاليف، وفي ظلّ هذه الظروف، فإن الضوابط التي وضعتها الحكومة على الأسعار، فضلاً عن احتكارات المنتجين، قد دفعا المنتجين المحلّيين إلى الكسل، الأمر الذي وفّر حافزاً إضافياً للمهرّبين لتكثيف عملياتهم العابرة للحدود.
في المحصّلة، أفرز ارتفاع الأسعار، ونقص السّلع، والتقشّف الشديد، آثاراً منهكةً جدّاً على السكّان عبر أنحاء البلاد، في الوقت الذي جعل فيه بعض الرجال، الذين يمتلكون “العضلات”، ويعرفون طرق الرّبح السّانحة في مثل هذه الظّروف، أكثرَ غنىً بشكل هائل.
في هذا السياق، يقول الكاتب إنّ أبرز ما يجسّد صعود المهرّبين إلى السلطة هي مليشيا “صقور الصحراء”، ثاني أهم المجموعات الهجوميّة الموالية للنظام. هذه المجموعة تأسست على يد الأخوين محمد وأيمن جابر. كلاهما شكّل نواة ثروته الطائلة كسائر المجرمين الذين نشطوا في عمليّات تهريب “النفط مقابل الغذاء” إلى العراق في أواخر التسعينيات، ثمّ استثمرا ثروتهم الوليدة، بحكمة شديدة، في الاحتكارات الممنوحة من الدولة السورية على الساحل خلال موجة الخصخصة الأولى التي قادها بشار الأسد.
لكن في عام 2013، وتحت ضغط العقوبات الخارجيّة، وتقدّم الفصائل المعارضة، وقّع الأسد مرسوماً يسمح لرجال الأعمال الخاصة بإقامة مليشيات خاصة بهم للدفاع عن ممتلكاتهم الشخصية. هكذا، بجرّة قلم، جنّد النظام لصوصه.
بدلاً من محاولة احتكار الموارد؛ أقدمت المجموعات المسلحة على تحقيق الأرباح من خلال تعذيب الجماهير بشكل مباشر. يورد الكاتب مثالاً على ذلك قرية التل، والتي تقع في شمال دمشق، والتي، نتجية الهدنة الموقعة بينها وبين النظام، اضطر مئات الآلاف من أهلها إلى النزوح وترك منازلهم. وعلى الرغم من الضمانات التي قدمتها الحكومة؛ فإن المليشيات المحلية الموالية، والتي تسيطر على نقاط التفتيش في المنطقة، بدأت بفرض ضرائب تصل قيمتها لـ 100 ليرة سورية على الكيلوغرام الواحد لجميع أنواع الأطعمة، وهو ما يحقق لها عائدات بملايين الدولارات، وموارد كافية لإطعام الآلاف من المقاتلين الذين يطوقون المنطقة وعائلاتهم.
ومع وصول أعداد النازحين المحاصرين من قبل قوات النظام إلى 850 ألفاً في مختلف أنحاء سورية، وفي ظل عدم قدرة نظام دمشق على تمويل وإطعام عائلات مليشياته؛ فإن الضرائب المفروضة على النازحين، عبر عمليات التطويق هذه، باتت حاجة اقتصادية أساسية للنظام كي يؤمن لقواته الأكثر أهمية على جبهات القتال المؤنة ويبقيهم سعداء.
ويقول كاتب المقال إنّ الهدف من ذكر هذا الأمر ليس الإشارة إلى الشر الذي يكمن في هذا النظام، وإنما الإشارة إلى نقطة شديدة الأهمية: مع وجود أجور لا تكاد تكفي لإطعام النظام نفسه؛ فإن الجزء الأكبر من المقاتلين الموالين للنظام لم يعودوا يعتمدون على النظام لتمويلهم وتسليحهم، أو حتى تجنيدهم.
وفي ظل انهيار المؤسسات الاقتصادية والحكومية في البلاد، يضيف الكاتب، فإن هؤلاء “الشبيحة” عادوا ليطاردوا أولئك الذين يملكون السلطة. وبغض النظر عن أماكن السيطرة التي تشير إليها الخريطة المرمّزة والملونة، فإن ما يملكه بشار الأسد هو سلطة ضئيلة على المساحة الواسعة التي يقول إنه يسيطر عليها. ومع تقدم الحرب؛ فإن خلافاً حول المصالح سوف يندلع، لا محالة، بين المقاتلين المحليين والنظام، كما بين دمشق وحلفائها الأجانب.
النظام القلق
الحادث الذي وقع في فبراير/شباط هذا العام يمكن أن يقدّم كمثال على ما هو متوقع؛ فخلال الاشتباكات العنيفة مع قوات المعارضة بالقرب من قرية حربنفسه، بريف حماة، طلب قائد المليشيا، أحمد إسماعيل، من أمراء الحرب أتباعه في قرية بعرين تعزيزات بحاجة ماسة إليها. غير أنّ زعيم مجموعة رجال بعرين، فادي قرابيش، رفض بشكل فظ الأوامر. في اليوم التالي، وبعدما شعر بأنه تعرض للخيانة في ظل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفذ، حوّل إسماعيل سلاحه نحو قرابيش.
يشير الموقع إلى أن فصائل تابعة لمخابرات القوات الجوية في حماة، كانت قد انضمت إلى إسماعيل، في محاولة لدعم عميلها المفضل. غير أن قرابيش نجح في وقف الهجوم، وأنشأ نقاط تفتيش خاصة به، تباعاً، على طول الطرقات في المنطقة، ليقطع بذلك ممرات التهريب التابعة لإسماعيل، والواصلة إلى جيوب المتمردين. وبحسب الكاتب، فإن النظام لم يتجرأ بعدها على إزعاج بعرين.
عوضاً عن ذلك، اجتهد نظام الأسد كي يربط مرؤوسيه بدمشق بوسائل سياسية، وكانت انتخابات إبريل البرلمانية مؤشراً إضافياً لتحديد التحول الأساسي في شكل النظام، من السلطة المركزية، إلى ما وصفه الكاتب بـ”خليط فضفاض من أمراء الحرب”: عدد من البيروقراطيين الذين خدموا نظام البعث لفترة طويلة.
ويقول المقال إن أقرباء الأسد، الأخوة مخلوف، بنوا شبكة مليشيا خاصة بهم من خلال مؤسسة “بستان” التابعة لهم، وهي مؤسسة خاصة أنشئت قبل اندلاع الثورة لتمويل المساعدات الإنسانية، إضافة إلى المجموعات المسلحة. وأشار إلى أن هذا الأمر يعزز من سيطرة النظام الميدانية، وهو يعمل خارج سيطرة الحكومة.
من جهة ثانية، يذكر الكاتب أن رعاة الأسد الأجانب لم يكونوا مساعدين بدورهم، فإيران تبدو متوافقة تماماً مع الوضع المشوش على الأرض، بعدما وضعت الكثير من الموارد الهائلة لتطوير شبكتها الخاصة عبر البلاد. أما روسيا، والتي تظهر بأنها أكثر قلقاً على استقرار النظام، فبدت غافلة عن الوضع برمته؛ إذ إن جنودها وضباطها يلتقطون الصور بشكل منتظم وهم يقاتلون إلى جانب المليشيات القبلية والطائفية.
في هذا السياق، يشير الكاتب، تحديداً، إلى الصور التي نشرها جنود روس وهم يقاتلون إلى جانب مليشيا “أبطال الجبل”، وهي مجموعة علوية صغيرة ذاع صيتها أول مرة حين أعلنت عن “فرقة انتحارية” للموالين للأسد.
العربي الجديد