ظهرت، صباح الجمعة الرابع والعشرين من يونيو/ حزيران الجاري، نتيجة الاستفتاء التاريخي الذي وافق رئيس الوزراء ديفيد كاميرون على تقديم موعده، ليكون في منتصف عام 2016، بدلاً من خريف 2017 كما كان متوقعا. ولرئيس الوزراء في رأي مراقبين، ومتابعي سياسة، كثيرين في بريطانيا، أسباب كثيرة في ذلك على مستوى حزبه الحاكم (المحافظين) الذي يواجه فيه تحدياً ظاهراً من زعيم الحزب، ومن عمدة لندن السابق بوريس جونسون.
ربما أعطاه الفوز الكاسح للمسلم ابن الأسرة الباكستانية المباشرة، صادق خان، برئاسة بلدية لندن ذات الثمانية ملايين ناخب، إشارةً خاطئةً، كان يعوّل على أبعادها، في أن تبقى بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وتسكت الأصوات العالية من مناوئيه داخل حزبه.
قدّم معسكر “الخروج” حجته التي ارتكزت، في بنود كثيرة منها، على رفض المركزية الأوروبية، وهيمنة بروكسل على القرار البريطاني، في مبادئ كثيرة، يرى قادة هذا المعسكر أنها أشياء سيادية، سلبت بريطانيا بعضاً من استقلالها لصالح كيان فوق تركيبة الدولة “سوبرا ناشيونال”، وجادلوا بأن بريطانيا تستحق أن تكون أكثر استقلالاً وحريةً، مما هي عليه الآن، بعضويتها في الاتحاد الأوروبي.
وقد أشهر هذا المعسكر سلاح التخويف من المهاجرين، بشكلٍ أعاد أجواء الستينيات والسبعينيات التي يظن أغلب المهاجرين العرب والمسلمين أن اندماج الأجيال اللاحقة منهم قدّمت الدليل العملي على الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. كان أفراد هذه الجاليات، وما زالوا، فاعلين في ما قدّموه من خدماتٍ وما جاؤوا به من رؤوس أموال، وما استثمروا فيه من أعمالٍ في أوروبا، وفي بريطانيا خصوصاً.
أي جردة حسابٍ لا شك ستبين أن المحصلة كانت إيجابية، وأن المهاجرين العرب والمسلمين، أسوة بأغلب المهاجرين، كانوا إضافةً نوعية للمجتمع البريطاني، شاهد عليها كل طبيب عربي في مستشفى، وكل تاجر مسلم فتح أسواق الشرق لبضائع بلده الجديد نحو بلده القديم، وكل صاحب عقار جهز عقاره بصورةٍ تناسب الثقافة العربية الإسلامية، وكل مؤسسة تعمل وتقوم بواجباتها من تشغيل أيادٍ عاملة مختلفة ودفع للضرائب.
الملاحظ أيضا في أثناء تلك الحملة الشرسة أن الجاليات العربية والإسلامية لم تعمل بجد من
“أخرجت نتيجة الاستفتاء ما كان حبيساً تحت السطح البريطاني” أجل أن يكون صوتها عالياً ومسموعاً ككتلة انتخابية مؤثرة وفاعلة، حيث يشكل المسلمون والعرب 10% من سكان بريطانيا. وبقليلٍ من التنسيق، كان يمنكهم أن يكونوا قوةً انتخابية يعمل لها ألف حساب، بدلاً من حمل أمراض مجتمعاتهم وانقساماتهم المناطقية والمذهبية التي حملوها معهم إلى وطنهم الجديد.
وعوّل ناشطون عرب ومسلمون كثيرون على أن يكون استفتاء “23 يونيو” مصيرياً للجاليات العربية والمسلمة، لأنه امتحان بريطاني حقيقي على تسامح المجتمع البريطاني الذي يعتز بقدرته على التعايش مع القادمين، في أن يجعلهم جزءاً من النسيج الاجتماعي المتنوّع الجميل لوناً وثقافةً، والذي طالما كان سمةً مميزةً لبريطانيا.
ركّز معسكر البقاء حملته على الآثار الاقتصادية، حيث أبان أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيخرج معه من سوق العمل ثلاثة ملايين وظيفة من العاملين في حقول إنتاجٍ، لها علاقة مباشرة بالتجارة والتصدير مع الاتحاد الأوروبي. القوى العاملة في بريطانيا تحميها قوانين أوروبية، تضمن لها حقوق العطلات المدفوعة الأجر، والأجر المتساوي للعمل نفسه، ولعطلات الأمومة المدفوعة الأجر. والوجود في الاتحاد الأوروبي يضمن للمستهلك البريطاني أسعاراً أرخص، خصوصاً ما يسميها البريطانيون مشتريات نهاية الأسبوع، وشراء السيارات، وقضاء عطلات في أوروبا أرخص.
ويضيف قادة هذا المعسكر أن الاقتصاد سيتأثر سلباً عند خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يعني تقليص الصرف على الخدمات الصحية المجانية المتميزة التي اشتهرت بها بريطانيا وخدمات الضمان الاجتماعي الأخرى من سكن وتعليم.
كأي زلزال، كانت لنتيجة الاستفتاء التي لم يتوقعها أكثر المراقبين تشاؤماً هزات ارتدادية ضربت العمق البريطاني، وأخرجت ما كان حبيساً تحت السطح البريطاني الذي كان يبدو للآخرين متماسكاً من أي شقوقٍ، تمسّ كيان المملكة المتحدة، بعد أن صمد مئات السنين تحت علم الاتحاد (اليونيون جاك). اسكتلندا التي صوتت، قبل مدة قليلة، لصالح البقاء في الاتحاد، بعد حملةٍ انتخابيةٍ شرسةٍ نزلت فيها مدافع السياسة الكبيرة للميدان: رؤساء الوزارة السابقون، توني بلير، غوردون براون، إضافة إلى رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون، وزعماء أحزاب سابقون، نيل كينوك وإدوارد هيث، أرسلت اليوم إشاراتها، عبر رئيسة الحزب الاسكتلندي، ووزيرها الأول، معلنة أنها قد تطلب استفتاءً جديدا للخروج من المملكة المتحدة والالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
كذلك فعل قادة إقليم ويلز، وأرسل الشين فين الإيرلندي، عبر زعيمه جيري آدم الذي لم يكن متوافقاً في الأساس مع الإتحاد البريطاني، تحت رعاية الملكة، لأسباب مناطقية ومذهبية إشارة في الاتجاه نفسه.
أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كاميرون، أنه سيتنازل عن رئاسة الوزارة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بعد أن فشل في الحفاظ على بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وبعد أن حقق معارضوه في الحزب انتصاراً في الحملة، كانوا هم وغريمهم كاميرون من جملة الخاسرين فيه، حيث أن خسارة بريطانيا هذه المرة لكاميرون، أو لغريمه الأكبر بوريس جونسون، عمدة لندن السابق، ليست في بقائها في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه، لكنها في كيفية المحافظة على المملكة المتحدة التي لم تعد موحدة بعد اليوم كما كانت.
مضوي الترابي
العربي الجديد