إذا أردت أن أكتب عن شعر قرأته يوما، وكان من دأبي التصفح فيه بشكل تميق بين الحرف والكلمة، بين البيت والبيت بين النثر والقصيدة، إلى الطريقة والنهج وإلى ما وراء الكلام من بواعث النفس الشاعرة وداوفع الحياة فيها وعن أي أحوال في النفس تصدر هذه المشاعر، وأيها يتسبب بالإلهام، وفي أيها يتصل الوحي وكيف يتصرف بمعانيه ويسترسل في طبعه.
انظر في قريحته وذكائه وفكره والملكة النفسية البيانية لديه، وهل هي متعسفة تملك البيان من حدود اللغة في اللفظ إلى عالم البيان في المعنى، ملكة يمتلكها بقوة ورصانة أو ضعيفة رخوة ليس معها إلا الاختلال والاضطراب وليس لها إلا ما يحمل الضعيف على طبعه المكدود كلما عنف به سقط به؟
أتبين كل هذا في كلام علي طه وشعره، أقرأ من الشعر ثم أزيد عليه انتقاد بما كنت أصنعه أنا لو أني عالجت هذا الغرض أو تناولت هذا المعنى بنفسي ثم أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الاهتزاز التي يحدثها الشعر في نفسي.
إذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت الألفاظ على معانيها قال إن هذا في الفن، هو الاستواء والاطراد والملائمة وقوة الحبك، وإذا عوض وخانه اللفظ والمعنى وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق، فقد يأتيك على أنه أعلى من إدراك معاصريه وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره من وراء اللغة ومن وراء الحالة النفسية ومن وراء العصر من وراء الغيب،…..
كأن الموجود في الدنيا بين الناس هو ظل شخصه لا شخصه، والظل بطبيعته مطموس مبهم لايبين إبانة الشخص وإذا أهلك الشاعر الاستعارة وأمراض التشبيه وخنق المجاز بحبل قال إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقارب وأصاب وأحكم وإذا سمى المقالة قصيدة قصدية وخالط فيها ركاكة قال هذه وحدتها .
وديوان الملاح التائه روح قوية فلسفية بيانية تؤتيك الشعر الجيد الذي تقرؤه بقلب وعقل وذوق, إنه متين رصين بارع الخيال واسع الإحاطة يصعدك بمحيطها ويهبط ملتفا مندمجا موزونا مقدر.
أسلوبه جزل وللغته لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهوه .
وأسلوب علي طه بالغ في الاتقان متعمق في أسرار الألفاظ وماوراءها، وتلك هي الروهة البيانية التي تكون وراءالتعبير وليس لها اسم في التعبير،
يا قلبـــ عنـــدك أي أســـرار
ما زلـــن في نشـــر وفي طيـــ
ياثـــورة مشــــبوبة النــار
أفلقت جسم الكائن الحي
أسر الجمال وريقة الحب
وتلفت المتكبر الصلف
عن ذلة المقهور في الحرب..
وأخيرا تظهر في هذا الديوان جديدة الجمال في كل صباح لأن وراء الصباح مادة الفجر وكذلك القصائد من نفس الشاعر.
مجلة الحدث – محمد اسماعيل