من نافل القول إن الفارق “الحضاري” شاسع بين بلادنا في مشرق العرب ومغربهم على السواء، وبين جيرانهم الأوروبيين على الضفة الأخرى للمتوسط، وربما يقدر بمئات السنين وليس بالعشرات، لجهة التقدم العلمي والتطور الصناعي، ناهيك عن سيادة القانون وأنظمة الضمان الاجتماعي التي تشكل هامش أمان للطبقة المتوسطة، وخط حماية للطبقات الفقيرة من أن تطأها أقدام “الرأسمالية المتوحشة” بشركاتها التي لم تعد عابرة للحدود وحسب بل عابرة للقارات، وأي خلل يصاب به خط الحماية هذا من شأنه أن يؤدي إلى انفجار مجتمعي، ولعل أحد أسباب الحركة الشبابية “السترات الصفراء” في فرنسا هو المساس غير المباشر بخط الحماية هذا، من خلال ارتفاع الأسعار بطريقة لا تتناسب مع الرصيد المالي لمن هم ضمن هذا الخط.
هامش الأمان هذا المتمثل بدخل شهري، للعاطل عن العمل، يمنعه من السقوط إلى ما دون خط الفقر مع ضمان مسكن، وبنسبة من الضمان الصحي، تختلف من بلد إلى آخر، هو الجاذب الأول لموجات اللجوء إلى الدول الأوروبية، أو على الأقل هو السبب الأكثر إلحاحا لمن فقد بيته في حرب، كحرب الأنظمة على شعوبها، كما يحدث في سوريا، أو لمن ضاقت به السبل ولم تعد لديه القدرة على دفع إيجار بيته، كما يحصل في دول اللجوء المجاورة، أو حتى ذاك الذي يعمل في دولة خليجية ولم يعد قادرا على تدريس أطفاله لأنه غير قادر على دفع أقساط المدارس الخاصة، فمدارس الحكومة ممنوعة، فاختار أن يترك بلاد العرب الغنية، وأن يركب البحر بنسبة موت تصل بحدها الأدنى إلى خمسين بالمئة ليصل إلى أوروبا.. لكن ماذا سيفعل السوري الذي إن استطاع أن يهرب من دوامة القتل قصفا أو اغتيالا فلن يستطيع الهرب من الجوع؟.. الجوع الذي لم يعد كلمة مجازية، بل حقيقة سواء في مناطق سيطرة النظام أو في غيرها من المناطق مع انهيار الليرة إلى مستويات قياسية أمام الدولار، يقابلها إجراءات “إنقاذية” تتخذها الحكومة لا تثير الضحك وحسب، و”شر البلية ما يضحك”، بل تثير الغثيان والقرف من أنظمة باتت قذرة حتى في تسلطها على رقاب الشعوب وخيرات البلاد.
وما هو أكثر بشاعة مما سبق أن يخلص كاتب في صحيفة عربية كبرى إلى أن الحكومات العربية والشعوب اتفقت على أن (الثورات، منزلق خطر بل بالغ الخطورة، ونسبة نجاحها أقل بكثير من نسبة الفشل، وتمثل تجربة الثورات في ليبيا واليمن وسوريا الصورة الفاقعة للفشل المدمر الشنيع، فقد أكلت الثورات في هذه الدول أخضرها ويابسها،… ولم تتحول معظم دول الثورات إلى وضع اقتصادي أفضل على الرغم من أن إحدى أهم لافتات هذه الثورات هي محاربة الفساد).. من السقم الرد والتفصيل فيما سبق.. فما يبدو جليا أن المجاعة ليست وحدها من انتقلت في بلداننا من حالة المجاز إلى الواقع المجسد.. بل البشاعة والوضاعة أيضا..