لا أزال أذكر دعوته لنا على الغداء، عندما أطلَّ بمعطفه الأسود الطّويل، وقبعته الفرنسيّة وربطة عنقه الأنيقة، وحذاءه اللامع، بزي أقرب ما يكون لرجل فرنسي بهي.
رجل في الثّمانين من عمره، تفوح منه رائحة الفكر الراقي، فهو الذي عاش ودرس في فرنسا
وحصل على شهادة الدكتوراه وتزوج من سيّدة فرنسيّة..
بينما نحن نتناول طعامنا وإذا بحادثة تطرق أبواب فكره فيرويها، يرويها مستخدماً كلمات محكية تتميز بها لهجته وكأنه لم يبرح مدينته حماة يوماً، وأتساءل مابال لهجاتنا السورية لا تتأثر باللّغات التي تدخل على ألسنتنا ومهما بعدنا يبقى للهجتنا السّورية أثراً لا يُمحى؟
السّوريون اليوم يملأون أقصاع الأرض شتاتاً، نحو عشرة ملايين لاجئ حول العالم منذ خمس سنوات.
لكن ذلك لم يمنع المخرج المسرحي أنيس حمدون المقيم في ألمانيا والذي غادر سوريا منذ خمس سنوات بعد إصابته في مدينته حمص أن يناديني بـ: “خيتو”.
وكأنّها بصمة صوت أو كلمة تميز ابن العدية ينادي به ابنة جارته حماة وكأنّه ما زال جالساً قرب العاصي.
والأمر ليس غريباً على السّوري أبداً، فبالعودة إلى تاريخ اللّهجة السّورية نجد أنّها شديدة الارتباط بأهلها وأنّها لم تتأثر عبر العصور مقارنة بلهجات الشّعوب الأخرى.
اللغة السّورية الأساسية هي اللغة السّريانية الآشورية، دخلت عليها اللغة العربية بسبب الهجرة والترحال من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وهنا نتج ما نسميه استعراب سوريا، حيث تأثرت المناطق المجاورة لبلاد الرافدين باللغة النجدية أكثر من باقي المناطق وبقي التزواج سائداً إلى يومنا هذا على اختلاف أنماط اللهجات من ترقيق وتفخيم ومدّ لكن بالنهاية تصب جميع اللهجات في نسق اجتماعي وثقافي واحد مما يسهل عملية التّواصل بين جميع السّوريين.
فمثلاً تتميز مدينة دمشق بلهجة سورية متوسطة تتناغم بين العربية والسّريانية بشكل لطيف،
وهي لهجة مقتضبة لا تعتمد على المد لإظهار الكلمة، ولكن تعتمد على قوة في مخارج الحروف
والكلمات المميزة عند الدمشقيين: (شحني: أي أنا هنا، وين كاين: أي أين كنت، باب زقاق: أي باب البيت، شنو: أي لأنه، تشكل آسي: أي دعاء لتكون الشخص الذي تضع زهوراً أو نبات الآس على قبري).
أمّا اللّهجة الحلبيّة فتعتمد على تضخيم الحروف بشكل ملحوظ، وفيها كلمات مميّزة مثل: (إشبك: أي مابك، بانجان: أي باذنجان، يوب: أي أبي، غشيم: أي غبي).
أمّا اللّهجة السّاحلية فتتميز بتبديل الألف إلى ياء فبدل أن يقول أنت يقول: إته
و كلمة إتـّه تحديداً يرجح العلماء بأنّها تعود لأصل سرياني، ودليل أنها تتفق مع اللّغة العبريّة بنفس الكلمة ونفس المعنى لكن بفتح الألف فتصبح أتّا أي أنت.
من الكلمات المشهورة في السّاحل السّوري (فدان: وتعني ثور، وينك: أي أين أنت،
والحشى: وتفيد بالقسم كحاشى وكلّا، الواح: وتعني واحد، آي آي، وتعني نعم)
ومن الكلمات السّريانية التي يتداولها السّوريون إلى الآن (غشيم وهي كلمة سريانية أصلها غوشمو
وتعني جسم بلا عقل وبالعربية تعني غبي، شلف: أي رمى، برا: أي بالخارج،
ناطور: أي حارس، ليك: أي انظر، إيمت: أي متى، مي: وتعني ماء)
وتتميّز اللّهجات السّورية من شرق سورية لمغربها لشمالها وجنوبها بقوّة مخارج الحروف العربيّة وهناك مناطق تفوق مناطق أخرى بالحفاظ على مخارج الحروف الأصليّة مثل مدينة السّويداء التي ما زال أهلها إلى الآن يلفظون حرف القاف والظّاء والثّاء بالشّكل الصّحيح.
وعلى الرّغم من وقوع سوريا تحت سيطرة الدّولة العثمانيّة لـمدة أربعمائة عام، إلا أنّ اللّهجة السّوريّة لم تتأثر سوى بحوالي ثمانمائة كلمة ونذكر منها (كركون: تعني مخفر الشّرطة).
بابوج: أي حذاء، منخار: أي أنف، اليوك، أي خزانة بالحائط، خستخانة: أي مشفى)
لكنّ أغلب تلك الكلمات أندثرت مع الزّمن.
كذلك الانتداب الفرنسيّ لسوريا لم يستطيع أن يـمحي بصمة اللّهجة السّورية كما فعل في لبنان أو المغرب العربي فطيلة حكم الفرنسيين لسورية تأثرت اللّهجة السّورية بحوالي ثلاثمائة كلمة فقط، لكنّها أيضاً سرعان ما أندثرت عبر الأجيال ونذكر منها (اسبتاليا: أي مشفى، بري عليك: وتعني برافو أي أحسنت، فرمشيا: أي صيدليّة)
وفي خضم أزمة اللّجوء التي يتعرض لها السّوريون، لم ينسوا أن يتشبثوا بلهجاتهم على الرّغم من إجبارهم على اكتساب لغة البلد الذي لجؤوا إليه، فنجد أن بعض الفيديوهات الخفيفة الظلّ تنتشر على موقع التّواصل الاجتماعي فيسبوك تظهر طفلاً سوريًّا وهو يحاول تعليم الطّفل السّويدي لهجته الإدلبية عن طريق لفظه لجملة: “أشو يو خاي” والتي تعني نعم يا أخي!
وفي ألمانيا سعى العديد من الـمواطنين الألمان الذين تعاطفوا مع اللّاجئين السّوريين إلى تعلم بعض المفردات السّورية كنوع من الترحيب باللّاجئين وكسر الحاجز الثّقافيّ بين المجتمعين.
ويبقى اللّسان السّوري مؤثراً أكثر من كونّه متأثّراً رغم كلّ الظّروف التي قد تحيط به ورغم اندماجه بالعديد من الثّقافات بل إنه يتميّز بـمخارج حروف عربيّة أصليّة تظهر مختلفة عند تعلّمه لأيّ لغة أخرى.
هافينغتون بوست عربي ـ خلود حدق