أبو أحمد رجل ريفي بسيط يعمل معلما في مدرسة قريته البسيطة، وبعد انتهاء الدوام يذهب بصحبة أحد أبنائه السبعة إلى رعي أغنامه الستة التي يرى فيها سعادة وأي سعادة.
قارب أبو أحمد على إنهاء عقده الرابع من العمر. وكان نحيل الجسم، بكتفين بارزين، من شدة ما يقاسيه من صعوبة العمل لتأمين لقمة عيش لعياله.
في مطلع العام 2015 أخذ أبو أحمد برفقة ابنه حسام ذي التسعة أعوام موافقة للدخول إلى الأراضي التركية نتيجة إحالة طبية عاجلة من قبل المكتب الطبي في معبر باب الهوى من أجل إجراء عملية قلب مفتوح لحسام كان معه منذ ولادته.
في الصباح الباكر في بيته المتواضع قبيل التوجه إلى بوابة المعبر كانت الأم تجهز لابنها طعام الفطور، الذي قد يكون الأخير، في حين خرج الأب لتأمين سيارة أجرة لتنقلهما إلى المعبر.
قالت الأم ” أي حسومة امي كول وقوي حالك بدياك ترجع أقوى و اعملك الأكلات يلي تحبن . مابدك تضل تساعدني نحط أكل ومي للغنمات . مو انت على طول تقلي يما فيقيني مشان حط للخروف الزغير مثلك مي وأكل “؟
ابتسم حسام وما كان منه إلا أن ارتمى بحضن أمه الدافئ يحرك رأسه في بطنها و يقبلها. فما كان من الأم إلا أن انهالت بغزير من الدموع والبكاء ومسح دموعها التي لا تجف بطارف غطاء رأسها. همهم حسام قائلا ” يما ليش عم تبكي؟ ” وأخذ بيديه الرقيقتين يمسح الدموع من خديها. في هذه اللحظات إذ بصوت الأب يعلو من خارج البيت ” يالله جهزتوا مابدنا نتأخر على المعبر “.
وصل أبو أحمد مع ابنه المريض إلى مشفى الدولة في أنطاكيا وبعد إجراء الفحوصات اللازمة للطفل والبقاء فيها ليلتين، تم تحويل الطفل المريض إلى مشفى القلب التخصصي في مدينة أضنة.
هناك استقبله الأطباء ونتيجة الفحوصات تبين أن الأمر قد استفحل جدا نتيجة التأخير الكبير. فمثل عملية القلب المفتوح للأطفال في عمر التاسعة تكون نسبة النجاح ضئيلة جدا على عكس ما لو كان أصغر من ذلك إذ ترتفع نسبة النجاح بحسب كلام الأطباء.
أجريت للطفل العملية لكن لطبيعتها وضعف تحمله فارق الطفل الحياة خرج الطبيب و أخبر المترجم أن يقول للأب للأسف لم نستطع إنقاذ ابنك . هنا توقف المترجم برهة من الوقت و هو يمشي ببطء نحو الأب المسكين قائلا ” العوض بسلامتك عمو الله يرحمو “!
قال الأب: ” شو “!! وسقط على الأرض معه بعض التحاليل التي تطايرت في المكان. أخذ المترجم يساعد الأب في النهوض وعلامات الأسى و الحزن تملأ قلبه و عقله. استجمع الأب طاقته ثم قال له ” انت عم تحكي صدق ولا عم تمزح ” ؟؟
قال المترجم ” يا عم حالة ابنك متأزمة والعملية كان لازم عاملها من زمان هيك قالي الدكتور “!
قال الأب بصوت ضعيف يكاد يسمع ” حسبنا الله و نعم الوكيل كيف بدي ارجع وحدي لعند أمو شو بدي قلها والله لتنجن “. شو بدي قول لأخوتو يلي كان معن بكل لعبة يلعبوها “!!
وقال للمترجم بصوت فيه حرقة ” ليش الحرب و الطيران خلا مشفى شغال عنا ” !!
توفي الابن في يومه التاسع بعد دخوله تركيا. تم تحضير الطفل الفاقد للحياة في عربة نقل الموتى لإيصاله إلى الجانب السوري من باب الهوى وبجانبه أبوه المكلوم المفجوع.
كان في انتظاره أمه و أخوته و بعض الأقارب اقتربت الأم بخطى ثقيلة من جثة ابنها لتلقي على بهجة قلبها و فرحه نظرة الوداع الأخيرة فأخذت تضم ذلك الجسد بشدة وقوة قائلة: ” الله يحرق قلبك يا بشار مثل ما حرقت قلبي انت يلي خليت ابني يبعد عني “!
إخوة الطفل الذين شاركهم ملاعب الصبا واللعب بالتراب والوحل ملتفين حوله. وكلهم في حزن وحرقة شديدتين. غادر الابن أمه وغادر الدنيا دون أن يمسح دموع أمه كما فعل في تلك المرة .
هذا ألم الأم و ارتجاف قلبها عندما يصاب ابنها بوجع نتيجة شوكة . فكيف إذا تركها من غير عودة تاركا صورته محفورة في قلبها في كل نظرة منها نحو السماء يرتسم وجهه المبتسم لها .
صوته الذي تشعر به دائما حولها يناديها ” يما وينك ” تلتفت حولها لكن ما من مجيب يعيد لها دقات قلبها المجروح.
كان الأب يرسم لحظة الفرح بالعودة إلى القرية مع ابنه حسام في قلبه ووجدانه و لقاء الأهل و الأحبة حاله كحال ملايين السوريين الذين هجروا من بيوتهم و أرضهم بعد أن وصل بهم التهجير إلى كل بقاع العالم أميلن بالعودة القريبة إلى أزقتهم وحيهم إلى حياتهم التي تركوها هناك.
لم يكن حسام الطفل الوحيد، بل يوجد غيره كثر من أطفال سوريا الجريحة ألم واحد وجرح ينزف إلى الآن.
الذين حرموا نعمة الحياة قبل كل شيء حرموا دواء الأبدان قبل دواء العقول نتيجة الحرب الشرسة التي تمارسها آلة القتل الإجرامية من نظام الأسد ومرتزقته وحلفائه من بعض الدول التي تفتك بهذه الأجساد اللينة الرقيقة داخل سورية وخارجها.
قصة خبرية / طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع