من فوارق أزمة اللاجئين عموماً، والسوريين تحديداً، انتقالهم بمجرد عبور المتوسط ووصول الأراضي الأوروبية من فئةٍ إلى أخرى، وفي ظرف زمني قياسي. فاللاجئ السوري فر من بلاده خوفاً على حياته ساعياً لإيجاد ملاذ آمن في أرجاء أخرى.
فهو كان مهدَّداً في بلده الأصلي. وهذا ما يحدث عموماً في الصراعات والحروب، بل في الدول غير الديمقراطية حتى في حال السلم. فأول خطر على حياة المواطن في الدول التسلطية يأتي من الدولة نفسها التي تُختزل عموماً في النظام القائم.
ويزداد المشهد تعقيداً في حال الصراعات الأهلية، لأن مصادر الخطر والتهديد المحدقة بحياة المواطن تتعدّد بتعدّد الأطراف المتناحرة. لذا، يجد المدنيون عادة أنفسهم بين مطارق المعارضة (المتنوعة والمتعددة والمتناحرة هي الأخرى) وسندان النظام.
وفي هذا الحال، لا مفر من الرحيل، وهو بالطبع قسري (ترحيل)، هروباً من الحرب والخراب والدمار… هكذا يغادر اللاجئ المهدَّد بلاده عنوة. ويقرّ الجميع عموماً بوضعه غير الآمن، ويتفهم سعيه مغادرة وطنه. لكن الإقرار والتفهم يتوقفان عند هذا الحد. بل وتتوقف “الإنسانية” عند هذا المستوى المحدود للغاية من التضامن، إن لم نقل المهمل. فعربياً، باستثناء الأردن ولبنان، أين يوجد عدد هائل من اللاجئين السوريين، نادرةٌ هي الدول العربية التي فتحت أبوابها للاجئين السوريين.
وعلى الرغم من ذلك، لا يخجل بعضهم في مواصلة الحديث عن الأمة العربية! فأي أمة تتخلى عن أبنائها، في مثل هذه الظروف العسيرة، بغض النظر من خلفيات المواقف من الصراع الدائر في سورية. والواضح أن اللاجئين السوريين استوعبوا مسبقاً الخجل والخذول العربيين. لذا، تراهم يفضلون الأرجاء الأوروبية على الرحاب العربية، ولسان حالهم لا يوجد في الديار العربية حاكم لا يظلم عنده أحد، فكان الملجأ الأوروبي أهون، ولعل بعضهم يستذكر ما قاله طرفه بن العبد “وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة”.
ضاق العرب ذرعاً باللاجئين السوريين، حتى قبل عبورهم الحدود السورية، تحديداً خوفاً من عبورهم لها باتجاه دول عربية أخرى. ولم يتردّد الأوروبيون في التعليق على الخذلان العربي، وعلى كرم الضيافة العربي. فَهِم اللاجئ السوري كل هذه الاعتبارات. لذا، يفضل الملجأ الأوروبي على الملجأ العربي. لكنه يجد نفسه في وضعيةٍ لا يُحسد عليها، فاللاجئ السوري المُهدَّد لمَّا يصل إلى أوروبا يتحول إلى مُهدِّد، حيث يعتبره قطاع واسع من الساسة والإعلام والرأي العام، خصوصاً في بعض الدول الأوروبية ذات سقف التسامح المنخفض، مصدر تهديدٍ بسبب انتمائه وخلفياته الثقافية والدينية، فضلاً عن التبعات الاقتصادية، لاسيما مع العدد الهائل من اللاجئين الذين يصلون إلى الأراضي الأوروبية.
والمسألة، هنا، مسألة إدراك بالأساس، إلا أن للإدراك الكلمة الفصل، ذلك أن ما يهم ليس الواقع
كما هو، وإنما مدركات هذا الواقع، أي هذا الأخير كما يراه المعنيون، الأوروبيون في هذه الحالة. وتلعب الصور النمطية والمخزون التاريخي، وخصوصاً الأحداث الجارية (وتضخيماتها وتوظيفاتها السياسية والإعلامية) دوراً مهماً في عملية المدركات هذه وتوجيهها. ومن بين الأحداث الجارية التي تؤثر، بشكل كبير، في صوغ هذه المدركات، إثبات تسلل عناصر جهادية، بوثائق مزورة، ضمن جحافل اللاجئين، ومشاركتهم في تفجيرات باريس في نوفمبر/ تشرين الماضي.
حيث تدعم هذه الحادثة المعزولة الموقف المعادي للاجئين، باعتبارهم الخطر الأمني (البشري) المحدق بالمجتمعات الأوروبية.
فكان الحل بالنسبة إيجاد صيغة تحفظ ماء الوجه، لكنها عملياً تقوم على ترحيل اللاجئين، بعيداً عن الأراضي الأوروبية، خصوصاً أن أزمتهم بدأت تحدث تصدعاتٍ في العمران التضامني الأوروبي، لاسيما بين دول الاتحاد الغربية ودوله الشرقية الحديثة العضوية.
ترجمت هذه الصيغة في الاتفاق المتوصل إليه بين أوروبا وتركيا بشأن قبول الأخيرة عودة لاجئين سوريين من اليونان مقابل مساعدات مالية، وتنظيم سفر وإقامة لاجئين من تركيا نحو دول أوروبية. هذه الصيغة دلالة أيضاً على محاولة للتخفيف من هذا “العبء الأمني” (المفترض) وتهدئة الجبهة السياسية-الاجتماعية الأوروبية. لكن استمرار تدفق اللاجئين نحو الأراضي التركية، سيُحدث أيضاً الظروف الاجتماعية الضرورية لبناء التهديد اجتماعياً في تركيا، أي الانتقال من النظر إلى اللاجئ السوري مهدَّداً إلى مهدِّد. نلاحظ، هنا، مدى ثقل العامل الجغرافي في التأثير على تغليب الاعتبارات المصلحية الفورية على الاعتبارات الأخلاقية.
لا تغير معالجة أزمة اللاجئين بعدياً (بدل استباقها) وضع المعنيين كثيراً، ما يقتضي مزيداً من الجهد، لإيجاد تسوية سلمية للحرب في سورية، لتهيئة الظروف لعودة السوريين إلى بلادهم، والعيش فيها في أمن وكرامة. لكن المشكلة في أن معظم الفواعل العربية والإقليمية (باستثناء تركيا) والدولية التي تعلب الأدوار الأولى في الأزمة السورية غير معنية بأزمة اللاجئين (بعضها لم يستقبل أي لاجئ سوري). لذا، فإن أزمة اللاجئين لا تشكل بعد حافزاً قوياً لدفع هؤلاء إلى الاتفاق على صيغةٍ لمخرج سلمي للأزمة السورية.
العربي الجديد – عبد النور بن عنتر