يعد الاتفاق المتحقق بين إيران والصين، الذي تسرب مؤخراً، اتفاقاً “منقذاً للنظام” وشراكة واسعة، اقتصادياً وأمنياً. فالصينيون سيستثمرون نحو 400 مليار دولار على مدى 25 سنة في إيران، مقابل نفط إيراني بتنزيلات كبرى. سيمس الاتفاق بالطبع بالعقوبات الشديدة المفروضة على التجارة مع إيران وبالجهد الأمريكي لعزلها في استراتيجية “أقصى الضغط”. بالنسبة لإسرائيل، يجب على الصفقة بين شريك اقتصادي مركزي (اليوم) لإسرائيل وعدوها الأساس، أن تشكل جرس إيقاظ مقلقاً: فالصين ليست صديقة إسرائيل، وبالتأكيد ليست بديلاً عن الدعم الأمريكي.
لقد بادر الرئيس روحاني بالاتفاق في 2016، في أعقاب الاتفاق النووي الذي -نتيجة له- رفعت عن إيران العقوبات الاقتصادية. وحسب الصفقة مع الصين، التي أقرها مجلس الوزراء الإيراني، فسيتوسع الوجود الصيني في البنوك، وفي وسائل الإعلام، والموانئ والمطارات والقطارات، وفي مشاريع البنى التحتية في إيران. وسيتضمن الاتفاق تعاوناً عسكرياً، وسايبر وتكنولوجيا، وتأهيلات وتدريبات مشتركة، وتعاوناً في تطوير السلاح والاستخبارات.
لقد كانت ردود الفعل في إيران سلبية. وحسب فهمهم، فإن إيران الضعيفة ستنتهي كطرف خاسر في الصفقة، ويرون كيف تبدو طريقة الاستثمارات الصينية في “حبس” الدول مع دين كبير، ثم في نهاية العملية تنشأ رافعة تسمح للصينيين بالسيطرة على البنى التحتية الحرجة وعلى المقدرات الطبيعية في الدولة. والطريقة هي جزء من الاستراتيجية الصينية، المسماة “مبادرة الحزام والطريق”، التي تنفذ في أكثر من مئة دولة. أما النظام في طهران، بالمقابل، فيفهم بأن الصفقة قد تنقذ الاقتصاد الإيراني، وستكون “إصبعاً في عين” الولايات المتحد،ة وستسمح للنظام بالاعتماد على الصين وعلى قدراتها، مع التشديد على نموذج التعقب للمواطنين، مما سيزيد احتمالات حماية الحكم.
لم يوقع الاتفاق بعد، وتسريبه يخدم مصالح داخلية في الدولتين. فالطرفان كفيلان بأن ينتظرا حتى انتخابات الولايات المتحدة على أمل أن يهجر بايدن خطة “أقصى الضغط”. فالعقوبات الأمريكية على إيران، التي ردعت بنوكاً صينية وشركات طاقة عن التقدم في صفقات مهمة في إيران، تفتح فرصاً رائعة للتعاون. بالنسبة لإسرائيل، فإن الحديث عن هذا الاتفاق هو إشارة واضحة إلى أنه حان الوقت لتغيير السياسة والبدء بالانفصال عن الصين. إيران هي العدو الأكثر خطراً على إسرائيل، وزعماؤها يقسمون على إبادة الدولة اليهودية ويطورون برنامجاً نووياً وصواريخ باليستية مع قدرة على حمل رؤوس متفجرة نووية. حينئذ ستمول إيران وتسلح حماس وحزب الله الذي جمع أكثر من 150 ألف صاروخ على الحدود الشمالية. إيران وحزب الله هما في عملية متواصلة من إدخال قدرات السلاح الموجه الدقيق إلى المنطقة، قدرات تغير قواعد اللعب وتهدد بالمس برموز الحكم، وبالمنشآت العسكرية والبنى التحتية والمراكز المدنية، وإلحاق ضرر كبير بإسرائيل.
مصلحة استراتيجية
الصين هي الخصم الخطير للولايات المتحدة، الحليفة الأهم لإسرائيل. والصينيون ينشرون تكنولوجيات النووي والصواريخ للأنظمة المارقة مثل إيران، وكوريا الشمالية، وباكستان، ويهددون هونغ كونغ، وتايوان وبحر الصين الجنوبي، ويسرقون ملكية فكرية وينفذون خروقات فظة لحقوق الإنسان. لقد كتب الصينيون وأخفوا معلومات حيوية عن كورونا كان يمكنها أن تساعد العالم على منع المصيبة الإنسانية والاقتصادية.
بالنسبة لإسرائيل، لن يكون الانفصال بسيطاً. فالصين هي إحدى الشركاء الاقتصاديين المركزيين ومصدر مهم للاستثمارات المالية، بعد الولايات المتحدة وأوروبا. فقد بلغت التجارية الصينية – الإسرائيلية في العام 2018 مقدار 15.3 مليار دولار، ارتفاع بمعدل 4.400 في المئة من العام 1995. ترى الصين في البنى التحتية الحرجة في إسرائيل جزءاً من مشروعها للتوسع العالمي. وهذا يشمل ميناء حيفا الذي تسبب حتى الآن بالتوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة، وميناء أسدود، والأنفاق في الكرمل، والقطار التحتي في تل أبيب، ومنشآت تحلية المياه، وغيرها. إن الأهمية الاستراتيجية للبنى التحتية واضحة، ولا سيما في ضوء حقيقة أن جزءاً منها يعمل إلى جانب منشآت عسكرية ومراكز تجارية وغذاء وخدمات حيوية أخرى.
لقد حددت الصين التكنولوجيا العليا الإسرائيلية كمصدر تكنولوجي حيوي في بناء أسلحة للجيل القادم، حتى وإن كان تحت غطاء استثمارات “مدنية”. وجندت شركات الانطلاق الإسرائيلية 325 مليون دولار من مستثمرين صينيين في ثلاثة أرباع من العام 2018، مقابل 67 مليون دولار في 2013. والاستثمارات الصينية استراتيجية، وتستهدف استخدام العلم الإسرائيلي في مجالات الفهم الاصطناعي، والحواسيب المتطورة، والسيارات المتحركة بالتحكم الذاتي، وعلم الرجال الآليين، وعلوم المعطيات. هذه التكنولوجيات اعترف بها البنتاغون كحيوية لجهودد الحداثة العسكرية، حتى لو كانت “مدنية” في تطبيقها الحالي. على إسرائيل أن تعيد تقويم العلاقات مع الصين، إذ إن الحديث يدور عن مصلحة استراتيجية مركزية لضمان عدم تآكل التفوق العسكري الإسرائيلي والأمريكي.
إن مخططي الاستراتيجية الإسرائيليين ستغريهم فكرة أن العلاقات الاقتصادية بين الصين وإسرائيل ستؤثر على الشراكة الكبرى لبكين مع طهران. هذا بالطبع وهم: فالصينيون سيكسبون ما يمكنهم، وفقاً لاحتياجاتهم، من إسرائيل ومن إيران، دون تفضيلات وخوف. أما إذا اضطرت الصين إلى الاختيار، فلا شك أنها ستختار إيران القادرة على أن توفر لها الطاقة الحرجة لوجودها، والتي لا يمكن لإسرائيل أن توفرها. عدد السكان الإيرانيين أكبر بثمانية أضعاف، والأرض أوسع بــ 75 ضعفاً، وهي تقع في منطقة استراتيجية هامة لخطة السيطرة الصينية. فضلاً عن كل هذا، فإن إيران عدو أمريكي مرير يمكن للصين أن تستخدمه في المنافسة العالمية أمام الولايات المتحدة.
الاقتراب من الولايات المتحدة
كل هذا يضع الولايات المتحدة وإسرائيل في جانب، والصين وإيران في الجانب الآخر في الحرب الباردة الناشئة بين القوى العظمى.
لا مفر لإسرائيل غير الوقوف في الجانب الأمريكي، بما في ذلك السياسة الرسمية. وأصحاب القرار في إسرائيل ليسوا مطالبين بأن يقروا أنظمة أو تشريعات تخنق القطاع الخاص؛ هم ببساطة ملزمون بضمان ألا تتخذ القرارات المتعلقة بالاستثمارات الاستراتيجية من قبل البيروقراطيين الذين لا تحركهم إلا أجندة محلية ضيقة. إلى جانب ذلك، فإن حكومة إسرائيل ملزمة بمساعدة المستثمرين في التكنولوجيا عندها على استخدام قدرات الشراكات الاستراتيجية مع الهند، واليابان، وأستراليا، وكندا، وسنغافورة ودول مشابهة، إلى جانب العلاقات مع دول الخليج (وحماية المصالح الأمنية). هذا الاستخدام الحيوي لتشخيص رأسمال بديل للاستثمارات الصينية.
لا شك أن فرصاً أخرى ستنشأ لتعميق التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب تجسيد ملموس للالتزام الإسرائيلي بفك الارتباط عن الصين. فالتعاون التكنولوجي، العسكري والاستخباري سيرتفع درجة أخرى وسيعمق التعاون السياسي. عندما يعمل الصينيون على إمكانية التعاون مع أسوأ أعداء إسرائيل، لا بديل لإسرائيل غير التقرب من صديقتها الأفضل والإبقاء على مسافة مع خصمها الأكبر.
بقلم: يعقوب نيجل ومارك دوفوفيتش
نقلا عن القدس العربي