إن الاعتقاد الساذج بأن محرّك إيران الرئيسي هو مواجهة الإمبريالية الأمريكية وربيبتها الصهيونية والدفاع عن «مصلحة الشيعة» سواء أكانوا من الفرس أم من العرب، وليس المطامع التوسعية للإمبراطورية الإيرانية، يجد رديفاً له في الاعتقاد الساذج بأن محرّك تركيا الرئيسي هو الدفاع عن «مصلحة السنّة» عرباً أكانوا أم أتراكاً في وجه الإمبريالية الروسية وصديقتها الصهيونية، وليس المطامع التوسعية للإمبراطورية التركية.
لقد ظهرت العصبية القومية الفارسية إلى العلن في إطار الأيديولوجيا الخمينية منذ مرحلة الحرب بين إيران والعراق في أوائل الثمانينيات. وهي تنجلي بين حين وآخر، منذ ذلك الحين، في كل مناسبة تتعلّق بتوسّع النفوذ الإيراني على حساب الشعوب العربية. آخر هذه المناسبات، بل أهمّها بعد الحرب المذكورة، كانت حملة تسعير العصبية الفارسية التي نظّمتها طهران إثر الاغتيال الأمريكي لقاسم سليماني. وربّما كان أسطع مثال على تلك العصبية، الموقف الذي أعلنه من منفاه السويسري أردشير زاهدي، أحد أبرز رجال العهد الشاهنشاهي البائد.
أردشير هو ابن الجنرال فضل الله زاهدي، أبرز أوجه الانقلاب الذي دبّرته «وكالة الاستخبارات المركزية» الأمريكية ضد محمّد مصدّق في عام 1953، وقد ترأس مجلس الوزراء إثر الانقلاب. فزوّج ابنه أردشير من ابنة الشاه شاهيناز بهلوي، وقد شغل الابن منصب سفير إيران في لندن قبل أن يتولّى وزارة الخارجية ويعيّن بعد ذلك سفيراً لإيران في واشنطن منذ عام 1973 وحتى سقوط الشاه في عام 1979. ففي مقابلة أجرته معه محطة «بي بي سي» الفارسية إثر مقتل سليماني، صرّح زاهدي بأنه فخورٌ بسليماني بصفته رمزاً للوطنية الإيرانية وأنه يحيّي حكومة «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» ووزير خارجيتها محمّد جواد ظريف.
أما العصبية القومية التركية، فباتت كاملة الجلاء منذ انعطاف رجب طيّب أردوغان في عام 2015 وعقده تحالفاً مع «حزب الحركة القومية» التركي الذي أسّسه قبل نصف قرن ضابطٌ سابق أخذ على «حزب الشعب الجمهوري» ابتعاده عن نهج مصطفى كمال القومي. مذّاك، غدا أردوغان يعمل يداً بيد مع خصمه السابق، يجمعهم التعصّب القومي التركي والمطامع التوسعية الإمبراطورية التي لا تنفصل عنه. وقد بدأ تحالف الطرفين على قاعدة العداء للحركة القومية الكُردية عندما أعاد أردوغان إشعال الحرب عليها بعد سنوات طويلة من الهدنة وفسح المجال أمامها في الحقل السياسي بوجه عام، والبرلماني بوجه خاص.
تبغي روسيا من ورائه احتلال موقع «الحكَم» الحاسم مرة أخرى بما يعزّز نفوذها في شرق المتوسط، بما فيه حقله الغازي الذي تتطلّع موسكو إلى المشاركة في استغلاله من خلال الحصة السورية التي تهيمن عليها، ناهيكم من الثروة النفطية والغازية الليبية التي تأمل طبعاً بالمساهمة في استغلالها
أما آخر محطات التعاون بين حزب أردوغان، «حزب العدالة والتنمية»، و«حزب الحركة القومية»، فهي تمريرهما في البرلمان قبل أسبوعين للقرار المتعلّق بإرسال قوات تركية إلى ليبيا دعماً لـ«حكومة الوفاق الوطني» التي يترأسّها فايز السّراج، وهو قرار صوّتت المعارضة ضدّه إذ رأت فيه مدخلاً لتورّط عسكري في مسرح عمليات بعيد. والحقيقة أن خطر التورّط الحربي هذا محدودٌ، نظراً للسياق الذي جاء فيه القرار وقد تلته بأيام قليلة زيارة فلاديمير بوتين إلى إسطنبول وتدشينه برفقة أردوغان لخط أنابيب يمتد من حقول الغاز الروسية عبر البحر الأسود إلى القسم الأوروبي من الأراضي التركية. وهو خط أنابيب مزدوج، سوف يساهم في تزويد تركيا بالغاز من روسيا، أهم مصادرها الغازية، ويساهم كذلك بتزويد أوروبا ولاسيما ألمانيا، بما يسمح لموسكو تنويع خطوط إمدادها لهذه الأخيرة والتخلّص من الارتهان بمرور غازها عبر الأراضي الأوكرانية.
وعندما نأخذ بعين الاعتبار، إضافةً إلى ما سبق، أن تركيا أبرمت مع حكومة السّراج قبل شهرين اتفاقاً ينصّ على ترسيم حدود البلدين البحرية، وهو اتفاق يتعلّق بالدرجة الأولى بحقل الغاز في شرقي البحر المتوسط الذي يدور حوله صراع بين تركيا واليونان، صراعٌ تنجم أهمّ عقده عن رفض الاعتراف الأوروبي والدولي بـ«جمهورية شمال قبرص التركية»، ذلك الجزء من الأراضي القبرصية الذي استولت عليه الدولة التركية عسكرياً في عام 1974 ومارست فيه استعماراً استيطانياً، عندما نأخذ كل ما سبق بعين الاعتبار يتبيّن لنا أن التدخّل التركي في ليبيا ليست غايته الدفاع عن «الشرعية الدولية» أو عن «جماعة الإخوان المسلمين» في وجه خليفة حفتر المدعوم من مصر والإمارات المتّحدة وروسيا، بل يندرج في إطار سياسة الدولة التركية التوسّعية.
فمثلما بات الاتفاق بين موسكو وأنقرة يتغلّب بوضوح على التخاصم بينهما في سوريا، يتّضح أن تدخّل تركيا في الساحة الليبية، في الخندق المواجه لذلك الذي تدعمه روسيا (بمرتزقتها، ومعظمهم من الذين حاربوا في شرق أوكرانيا)، إنما يقوم على تناغم بين الدولتين تبغي كل منهما من ورائه ضمان مصلحتها. وقد استفاد بوتين من الإعلان التركي كي يمارس لعبته المفضّلة، ألا وهي لعبة التظاهر بالقيام بدور الحكَم مع الإمساك بأهم أوراق اللعبة، على غرار الدور الخبيث الذي بات يلعبه في سوريا. فانتهز فرصة ما أقدم عليه أردوغان، واستقبل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في موسكو ليدعو معها إلى مؤتمر حول ليبيا يُعقد في برلين، تبغي روسيا من ورائه احتلال موقع «الحكَم» الحاسم مرة أخرى بما يعزّز نفوذها في شرق المتوسط، بما فيه حقله الغازي الذي تتطلّع موسكو إلى المشاركة في استغلاله من خلال الحصة السورية التي تهيمن عليها، ناهيكم من الثروة النفطية والغازية الليبية التي تأمل طبعاً بالمساهمة في استغلالها هي أيضاً.
نقلا عن القدس العربي