الدرس الأهم الذي يلقننا إيّاه الفيلسوف الدمشقي في كتابه، ضرورة احترام الآخر وحريته في التعبير عن فكره، مهما كان هذا الفكر مخالفا، وعدم وضع ضوابط ولوائح تفتيش وقوائم محظورات على حرية الفكر.
صدرت قبل أيام في دمشق ترجمة عربية لكتاب “حياة إيزيدور”، للفيلسوف الدمشقي دماسكيوس الذي عاش في أواخر القرن الخامس الميلادي، وأوائل القرن السادس.
وهو كتاب في غاية الأهمية لفيلسوف عاش في زمن تعرض فيه أتباع الفلسفة لاضطهاد غير مسبوق على أيده متعصبي ذلك الزمن من مسيحيين بيزنطيين، رأوا في كل مخالف لهم مجرما لا بدّ من قتله، واعتبروا التفكير خصما طبيعيا لهم. ولا شك في أن شعوب أوروبا والشرق الأوسط والعالم دفعت ثمنا باهظا، نتيجة الانغلاق الفكري الذي سمي في الغرب باسم العصور الوسطى.
شهادة الفيلسوف الدمشقي واحدة من أهم الشهادات على تلك الحقبة، حيث يروي في كتابه الذي تعرض للطمس والاجتزاء، قصص فلاسفة وعلماء رياضيات وأطباء تعرضوا لاضطهاد عنيف، وصل إلى السحل والحرق، بسبب عدم اتباعهم للعقيدة الرسمية التي تبناها الإمبراطور. وتعدّ قصة عالمة الرياضيات الإسكندرية الشهيرة هيباتيا، أشهر هذه القصص، حيث ألهمت الكثير من الكتاب بوضع نصوص أدبية تجسد مأساتها، كما أنتجت هوليوود قبل سنوات فيلما قارب حياتها ومأساتها، بعنوان “أغورا”.
وربما، قلة من الباحثين تعلم أن الفيلسوف دماسكيوس هو أول من سرد قصة هيباتيا في كتابه، فلولاه لما علم أحد عن هيباتيا، ولما كتب آلان نادو روايته “عبدة الصفر” ولما خرجت رواية عزازيل ليوسف زيدان إلى النور. ومما يحسب لهذا الكتاب أيضا أنه أضاء على مجموعة كبيرة من المفكرين والفلاسفة والخطباء والأطباء العرب والسوريين، الذين كانوا يكتبون باليونانية، لكونها لغة الحضارة التي كانت سائدة في ذلك الزمن، تماما كما حدث مع مفكرين وأطباء وشعراء غير عرب تبنوا الثقافة العربية الإسلامية، وكتبوا بها مؤلفاتهم في العصر العباسي الطويل.
لقد تم تدمير التراث الحضاري المخالف للعقائد البيزنطية، خلال الحقبة المظلمة تلك بدعوى أنها تنشر عقائد فاسدة، وكان من نتيجة ذلك تخلف أوروبا ودخولها في عصور ظلام متعاقبة، ولكن هذه المؤلفات التي اعتبرت في بيزنطة وروما هرطقية، أعادت الحضارة العربية الإسلامية إحياءها، واستفادت منها وبنت عليها، فكان ذلك سببا من أسباب تقدّم العرب والمسلمين وسيطرة ثقافتهم على العالم قرونا عدة، مقابل تراجع أوروبا وتخلفها.
ولعل الدرس الأهم الذي يلقننا إيّاه الفيلسوف الدمشقي في كتابه، ضرورة احترام الآخر وحريته في التعبير عن فكره، مهما كان هذا الفكر مخالفا، وعدم وضع ضوابط ولوائح تفتيش وقوائم محظورات على حرية الفكر، مهما كانت الذريعة، فحين تستولي فكرة امتلاك الحقيقة كاملة على فرد أو مجموعة، تكون الكارثة قد وقعت، والأسوأ قد حدث.
العرب تيسير خلف