لن يتمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من إنجاح مبادرة وساطته بين المملكة العربية السعودية وإيران، إلا في حالة إجبار إيران على انتهاج سياسة العرب تجاهها وهي بالأساس الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية وتحريك وكلائها أو ميليشياتها الطائفية. وبالرغم من بوادر ضعف هذه المبادرة أمام رضوخ بوتين لرغبات الإيرانيين والسوريين، فإن أفق النجاح في مهمته ممكنة في حالة لجم التغلغل الإيراني، حسب قراءة مركز المجموعة الاستشارية للشرق الأوسط.
واشنطن- أفادت صحيفة “ريا نوفوستي” الروسية، أن روسيا مستعدة للتوسط بين السعودية وإيران من أجل التقليص من حدة التوتر في منطقة الشرق الأوسط. ونقلت الصحيفة عن مصدر في وزارة الخارجية في موسكو قوله “إننا نعرب عن خالص أسفنا إزاء تصاعد حدة التوتر بين السعودية وإيران، لأننا نعتقد أن هذين البلدين المسلمين الكبيرين مؤثران جدا في المنطقة وعلى الصعيد العالمي وفي سوق النفط”.
وأوضح الدبلوماسي الروسي أن موسكو لديها علاقات ودية مع كل من طهران والرياض، وأن بلاده “على استعداد، إذا لزم الأمر، للعب دور الوسيط في تسوية الخلافات القائمة بين البلدين”، لكن الأمر يظهر حسب مراقبين في المجموعة الاستشارية للشرق مجرد تفكير بسيط من قبل فلاديمير بوتين في إشكالات الشرق الأوسط وتشابك علاقاته.
فشل روسي
صحيح أن الربيع العربي مثّل نقطة تحول في استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط عبر تدخلها المباشر فيه، ولكن توج التدخل العسكري الروسي الجريء في سوريا في عام 2015 لحماية واحد من آخر أصدقائها الإقليميين، النكسة الروسية المتزايدة ضد ما تعتبره خطوة مرتبة من الغرب للإطاحة بحلفائها الإقليميين.
وبناء على هذا الفشل الروسي ميدانيا في سوريا، فإن أهمية عرض وساطة وزارة الخارجية في موسكو بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران ليس لها تأثير كبير، فمن الواضح أن هذا العرض ليست له أجنحة تساعد على تحقيقه. إذ يبدو من خلال ذلك أن روسيا تريد أن تُعلم أنها تريد البقاء على صلة وثيقة مع كلا الطرفين. ولكن هل ستحافظ بالفعل على تلك الصلة؟.
كانت المشاكل الهيكلية في استراتيجية الرئيس بوتين في الشرق الأوسط واضحة منذ البداية، عندما حاولت موسكو لعب دور أكثر حزما في المنطقة. أولا، لا يملك بوتين “عضلات مفتولة” تكون قادرة على تحمل أثقال المنطقة، ثانيا، القيام بالتعبئة على خلفية الغياب الطويل عن العلاقات مع اللاعبين الرئيسيين، وثالثا، فإن طبيعة الأزمة الإقليمية لا يمكن أن تترك مجالا للتواصل مع جانبي الصدع الإقليمي.
كانت هناك فرصة أفضل أمام موسكو لبناء بعض الجسور في العام الماضي. وقبل عام، تمت دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز لزيارة موسكو. وكان من المتوقع أن تتم الزيارة في شهر أغسطس، كما قال سيرجي لافروف مضيفا خلال زيارة وزير الخارجية السعودي لموسكو في 11 أغسطس الماضي أن “المحادثات بشأن الوضع في الشرق الأوسط، بدأت في سانت بطرسبرغ، في المنتدى الاقتصادي 2015، مع ولي العهد واستمرت في الدوحة، وتم فتح المجال لإمكانية إجراء مناقشات أكثر تفصيلا”. وقال مصدر في وزارة الدفاع الروسية لوسائل الإعلام إن الملك سوف يزور موسكو، وأفاد نفس المصدر أن العاهلين السعودي والأردني سوف يزوران المعرض الجوي العسكري ماكس- 2015 في يوم افتتاحه، في 25 أغسطس، مرفوقين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأثناء التحضيرات للزيارة، أصبح من الواضح أن سياسة الرئيس بوتين في سوريا أمر غير قابل للتفاوض. وكان واضحا بعد ذلك أن السعوديين عرضوا بعض “الحوافز” على بوتين في مجالات مثل صفقات السلاح والسياسة النفطية، لكن الرئيس الروسي رفض العرض في مقابل فهم معقول للوضع في سوريا. وتفيد الأنباء بتكرر التردد في الموقف الروسي خلال زيارات سابقة لمسؤولين سعوديين رفيعي المستوى إلى موسكو، بما في ذلك ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وعلى غرار ما يحدث الآن، كانت موسكو في مواجهة خيار واضح: إما التوصل إلى تفاهم معقول مع السعوديين وتغضب طهران، وإما أن ترفض العروض السعودية. لا توجد وسيلة سحرية للمحافظة على علاقة ودية مع كلا الجانبين عندما يكونان في حالة حرب، فبالفعل يعتبر البقاء على مسافة واحدة من طرفي الصراع تحديا خاصة عندما يصر الجانبان على الابتعاد عن بعضهما تحت وطأة التدخلات الإيرانية التي لا تنتهي في المنطقة.
كانت مبادرة روسيا الساذجة لتشكيل تحالف إقليمي لمكافحة الدولة الإسلامية مظهرا من مظاهر ضعف التكتيكات الروسية للحد من الفجوة المتفاقمة، ويعتبر عرض الوساطة الأخير محاولة ساذجة أخرى لمعالجة فشل مقترح سابق أكثر سذاجة.
في انعكاسات لحسابات موسكو في العام الماضي، كان العديد من الخبراء الروس يتوقعون حدوث أزمة وشيكة في العلاقات السعودية الأميركية. وكتب ديمتري ترينين من معهد كارنيغي قائلا “بالنسبة إلى السعوديين، التواصل مع روسيا هو جزء من التنويع العام في السياسة الخارجية بعيدا عن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة”، مؤكدا أن استقرار أسعار النفط يعتبر مصلحة مشتركة لروسيا والمملكة العربية السعودية. وبالإضافة إلى هذه التوجهات المتوقعة نحو التنويع، تبدو موسكو قد بالغت في تقدير المكاسب الاستراتيجية المحتملة لتحالفها مع الأسد وطهران. من الواضح، أن الرئيس بوتين يخطط لامتلاك كعكة وأكلها أيضا، وينتظر اللحظة المواتية للقيام بهذه الخطوة.
شروط النجاح
يتمثل خطأ بوتين الرئيسي في أنه توقع من إيران وسوريا أكثر بكثير مما هما على استعداد لتقديمه. وهو ينظر الآن على أنه أحد المستثمرين الذي مني بالخسارة وهو يسعى للحد من خسائره، ففي الشهر الماضي، شاركت قواته الجوية على مضض في قصف المدنيين في المناطق المحيطة بحلب رغم التزامه باتفاق “وقف الأعمال العدائية”، ومن خلال اتصالاته بواشنطن، يبدو أنه يجد صعوبة حقيقية في الحفاظ على التزاماته، لأنه يلبي رغبات حلفائه الذين يصرون على فعل ما يريدون، بغض النظر عن قيود موسكو وأجندتها.
وفي هذه اللحظة، يبدو أن الإيرانيين هزموا الرئيس الروسي. ومع ذلك، لا يمكنه الانسحاب وإلا فسوف يخسر الجميع. فالجهود العسكرية الروسية لتمكين الأسد وميليشيات إيران في سوريا من السيطرة على شمال البلاد لا يمكنها حتى السيطرة على حلب، ناهيك عن إدلب. وكان من المتوقع أنه بحلول ذلك الوقت، سوف يعلق الإيرانيون صور الخميني وخامنئي في كل أنحاء محافظة حلب، شرقا وغربا، وربما مدينة إدلب أيضا. بدلا من ذلك، أجلى الحرس الثوري رقما قياسيا من جنوده القتلى في خان تومان.
تسير العملية السياسية بشكل أعرج ومضطرب من أجل إيجاد حل، وذلك جراء الإستراتيجية التي اعتمدها بوتين لاستعادة مكانته في العالم كمحارب وصانع سلام. وفي الوقت الذي لا يركز فيه بوتين على الإبقاء على الأسد في السلطة، تعتبر طهران أن عزله خط أحمر. الأسد هو الشخص الوحيد الذي تثق فيه إيران للإبقاء على جسرها إلى شرق المتوسط مفتوحا.
قد يعود بوتين بخفي حنين من سوريا بعد أن كان رهانه الأساسي في دعم الأسد، هو الحفاظ على مصالحه في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتقديم خدمة لطهران، والتحول إلى وسيط في الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سياسي هناك، لكن فعلا وعلى الميدان، شهدت المواقع القتالية للأسد في الحرب الأهلية تحسنا طفيفا، كما أن إيران لعقت جراحها واستبدلت قواتها من الحرس الثوري بميليشيات من أماكن أخرى، وهذا لا يجعل من تفكير بوتين في أن يكون وسيطا بين طهران والرياض تفكيرا سليما ومنطقيا، فهو عاجز حتى عن إدارة هيمنته في سوريا. وفي حسابات العمل العسكري والدبلوماسي، لن تؤدي الخطوة الروسية في سوريا إلى قطف الثمار التي ينتظرها الكرملين، إذ لا إيران ولا الأسد يفعلان ما تريده موسكو، بالإضافة إلى ذلك، تم خلال العام الماضي إغلاق المجال أمام فرصة لتحسين العلاقات مع دول الخليج.
وفي المحصلة فإن مناورة الرئيس بوتين في الشرق الأوسط قريبة، ولكن لا تزال أمامه فرصة للعب دور في الوساطة بين الإيرانيين ودول مجلس التعاون الخليجي. وينبغي أن يستند دور الوساطة هذا على أساس أن إيران يجب أن تحد من تدخلاتها الخارجية.
العرب