الغارديان
ذات ليلة في نهاية شهر آذار/ مارس، عاد أحد قادة الثوار من لقاء وراء الحدود التركية، ودعا لاجتماع عاجل لقادته الميدانيين. اجتمع الرجال الخمسة في منزل قائدهم في محافظة إدلب، متوقعين أن يتلقوا طلب الصبر المعتاد الذي سمعوه مرارًا، والمزيد من الأخبار السيئة حول صعوبة تحصيل الدعم المالي والأسلحة. هذه المرة، كان الأمر صادمًا بالنسبة لهم.
قال أحد القادة: “عندما وصل كان يبدو متحمسًا؛ مما استدعى انتباهنا مباشرة. لكن، عندما بدأ يتحدث، كنا جميعًا مصدومين”.
القائد، الذي طلب عدم تحديد شخصيته ومجموعته، قال إنه أخبر رجاله أن حرب الاستنزاف الطاحنة التي كانوا يخوضونها منذ بداية 2012 ستتحول لصالحهم.
وتابع القائد لصحيفة الأوبزرفر: “السبب أنني أستطيع الآن الحصول على كل الأسلحة التي أردتها”، مضيفًا أنه: “للمرة الأولى لم يتم حجب شيء عنا، باستثناء الصواريخ المضادة للطائرات. الأتراك وأصدقاؤهم أرادوا نهاية هذا الأمر”.
قال القائد إنه تلقى توضيحات بأن مجموعته وكل المجموعات المعارضة في الشمال، باستثناء تنظيم الدولة، سيستفيدون من الانفراج بين القوى المحلية التي وافقت على تجاوز خلافاتها والتركيز على العدو المشترك، النظام السوري.
تم تأمين الاتفاق من السعودية، التي قررت أن تفعل كل ما تستطيع لإنهاء نظام بشار الأسد، والأهم من ذلك، تقويض طموحات داعم الأسد الرئيس: إيران؛ بالسيطرة على مسار الحرب. هذا وضع مرحلة جديدة في صراع القوى القديم بين الخصوم الإقليميين على التأثير والسلطة، وأدت لتداعيات عميقة بمسار الحرب في سوريا، ومواجهات جديدة بالوكالة في الشرق الأوسط.
بداية آذار/ مارس، استدعيت شخصيات إقليمية كبيرة من الرياض من الملك الجديد سلمان لسماع خططه للمنطقة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أول الواصلين. المسؤولون القطريون ومجلس التعاون الخليجي تبعوا ذلك مباشرة.
كانت رسالته ذات ثلاثة أبعاد؛ الأول: ليس هناك مزيد من الانقسام على الصعيد الإقليمي، والذي جعل حكومات قطر وتركيا المنحازة للإخوان المسلمين تدعم التنظيمات السورية المتحالفة، بينما ركزت السعودية على قوى أكثر تماشيًا مع التيار. الثاني: الرياض ستوافق على إرسال أسلحة تغير مسار المعركة لشمال سوريا، مقابل ضمانات بالتنسيق والانضباط. وأخيرًا: أمريكا لن تقف في الطريق؛ إذ أخبر مسؤول سعودي الأوبزرفر أنه “بكل صراحة، لم يكن ذلك ليزعجنا لو حاولوا ذلك”.
أثناء أسابيع، أدت الدفعة الجديدة لمكاسب واضحة. تنظيمات المعارضة -التي تضم فرع القاعدة في سوريا/ جبهة النصرة، والمعتبرة مع التنظيمات الإرهابية أمريكيًا، والمنظور لها بحذر من الرياض- والمسلحة بالكثير من صواريخ تاو الموجهة المضادة للدروع، التي تستطيع استهداف مدرعات النظام من مسافات أميال، بدأت بالتقدم نحو بلدات ومدن لم تكن تتجرأ بمهاجمتها حتى ذلك الحين.
النتائج كانت صادمة. عاصمة محافظة إدلب سقطت خلال أيام. بعد أسابيع، بلدة جسر الشغور القريبة سقطت بيد مجموعة من الجهاديين والمعتدلين الذين حافظوا على دورهم في الصفقة.
الآن، السهول الزراعية الممتدة نحو ثالث ورابع مدن سوريا: حمص وحماة، تبدو أكثر هشاشة كما لم تكن منذ منتصف 2012، وكذلك ساحل البحر الأبيض والمتوسط، وجبال الشمال، التي تعد موطن الطائفة العلوية، المهيمنة في التأسيس السياسي والأمني لسوريا. وفي الشرق، حلب، التي كانت معرضة لتهديد حقيقي بمحاصرتها من قوات الأسد قبل ستة شهور، تبدو الآن أقرب لسيطرة الثوار.
في أنقرة والرياض، وحتى في بغداد وبيروت -الحليفتين الاسميتين للنظام- هناك إحساس قوي بأن الحرب تسير بشكل بائس بالنسبة للنظام. كل معركة قاتلها الجيش منذ شهر آذار/ مارس انتهت بهزيمة، بما في ذلك القتال البطيء على حقلي الغاز شمال تدمر الأسبوع الماضي، اللذين سيطر عليهنا تنظيم الدولة، بجانب تدمر نفسها، أحد أهم المواقع الأثرية في العالم.
أرسلت دمشق بعض رجال نخبتها لحماية حقول الغاز، الأساسية في دعم الطاقة في سوريا، لكنها هزمت سريعًا على يد تنظيم الدولة الذي فرد سيطرته في محافظة الأنبار المجاورة الأسبوع الماضي.
قال دبلوماسي كبير في العالم العربي، إن “هذه الأحداث ليست مدًا وجزرًا في معركة؛ بل دليلًا واضحًا ومتكررًا أن جيش النظام لا يستطيع حماية نفسه، أو البلاد، حتى مع الدعم الكبير من حليفته إيران”.
وراء الحدود، يعبر المسؤولون العراقيون عن نفس المخاوف حول جيشهم الوطني. أفضل قوات العراق، الأكثر تسليحًا وتدريبًا من السوريين، استسلمت في الرمادي، أهم مدن محافظة الأنبار، خلال 72 ساعة تقريبًا، معطية تنظيم الدولة أكبر انتصاراته منذ مداهمته الموصل في تموز/ يوليو. نية التنظيم الإرهابي المعلنة حينها كانت إزالة الحدود ما بعد العثمانية التي حددت ملامح الشرق الأوسط الجديد، خصوصًا اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية-الإنجليزية التي شكلت سوريا ولبنان الحديثتين. بعد عام، لم يعد بالإمكان بسهولة انتقاد داعش على ما بدا طموحًا مبالغًا فيه.
يوم الجمعة، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن تنظيم الدولة يسيطر الآن على ستة معابر حدودية بين العراق وسوريا، حتى مع التواجد الثابت للضربات الأمريكية الجوية. ما يقارب 1000 ميل من الحدود خارج سيطرة كلا البلدين، ليتمتع تنظيم الدولة بالحرية الكاملة في التنقل، باستثناء تحركات الطائرات الجوية.
بالرغم من أن 20 من أكبر قادته اغتيلوا بطائرات أمريكية بدون طيار؛ إلا أن قادة تنظيم الدولة لا زالوا يتنقلون بحرية عبر المساحة الكبيرة من الأرض، التي تساوي تقريبًا مساحة الأردن، التي يسمونها الآن الخلافة الإسلامية. مفتاح نموهم ليس دائمًا بالأيديولوجية الوحشية الثابتة التي يستخدمها قادتهم لإخضاع المجتمعات التي يحكمونها.
قال طبيب جراح من مدينة الفلوجة التي يسيطر عليها التنظيم، إنه “قبل وصول تنظيم الدولة، كنا حيوانات الشيعة”، مضيفًا أنه “بغض النظر عما قلناه أو اعتقدنا به، فقد كنا نعامل على أننا داعش بكل حال”، من قبل الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة. وتابع: “حسنًا، إذًا قد نكون معهم؛ لأن الحكومة لن تأتي لمساعدتنا أبدًا. هم يملكون قدرة وسلطة أكثر من بغداد منذ صدام”.
آراء الجراح تجد صدى لها من سكان في دير الزور شرقي سوريا، تواصلنا معهم هاتفيًا. قال رجل سمى نفسه “أبو أيمن”: “أستطيع أن أرى جاذبية داعش. بقدر ما أكرههم، فأستطيع أن أرى أنهم يقودون بعض المجتمعات السنية نحو كرامة لن تمنحهم إياها أية حكومة”.
النجاح الكبير للجهاديين الأسبوع الماضي أظهر ربما ضعف الدول التي يقاتلونها أكثر من قوتهم أنفسهم.
قال الاستراتيجي العراقي الذي يكتب في قضايا داعش، هشام الهاشمي، إن “هذه مشكلة كبيرة. هذا شيء لا تريد أي دولة الحديث عنه. لا يستطيعون الاعتراف بأنهم لا يستطيعون إيجاد حلول لأنفسهم، لكنها قضية تهم المنطقة كثيرًا”.
عندما هددت بغداد في تموز الماضي، كانت إيران أسرع من أي حليف آخر بإرسال مستشارين لتعزيز دفاعاتها. لم يسافروا كثيرًا، كما لم يحتاجوا البدء من الصفر؛ إذ إن الضباط الإيرانيين كانوا يفعلون تمامًا الشيء ذاته في سوريا لعامين ماضيين على الأقل.
بعد عام، إيران أكثر التزامًا من أي وقت مضى بتأمين الدول المتداعية وتأمين أهدافها الاستراتيجية في العالم العربي.
بقاء أنظمة بغداد ودمشق -أو على الأقل نفس الأنظمة والبنى الآن- مهمة للأهداف الإيرانية الجوهرية في الشرق الأوسط: تثبيت قوس من التأثير من طهران، عبر قم، بغداد، النجف، ثم دمشق وإلى جنوب لبنان، حيث تبقي ميليشياتها بالوكالة تهديدًا دائمًا للحدود الإسرائيلية الشمالية. دمشق سمحت بدفع الأسلحة والأموال والمقاتلين إلى حزب الله، ومنذ 2003، بغداد أصبحت قناة أساسية للطموحات الإيرانية، بوجود التنظيمات العراقية الشيعية التي قاتلت الجيش الأمريكي المحتل كوكلاء مدفوع لهم.
بينما راقبت الرياض بعدم رضا المكاسب الإيرانية الثابتة في العراق منذ الانسحاب الكامل للجيش الأمريكي في 2011؛ إلا أنها أصبحت أكثر حذرًا عندما تفككت سوريا. قال المسؤول السعودي: “أظهر لنا هذا لأي مدى سيذهبون لحماية مصالحهم. لم يكونوا يحمون ما يملكون فقط؛ بل يعملون على البناء عليه، وكل ذلك تحت الغطاء الأمريكي”.
خلال الحرب السورية، والثورات العربية بشكل عام، العلاقة السعودية مع أكثر حلفائها في العالم أهمية ذبلت بشكل واضح. الملك سلمان، الذي كان وزير الدفاع سابقًا، معروف بشجبه غموض سياسة باراك أوباما حول سوريا، خصوصًا قراره بعدم ضرب دمشق في آب/ أغسطس 2013، بعد هجوم بغاز السارين يتهم به النظام السوري. قال المسؤول السعودي: “كانت تلك لحظة أدركنا فيها أن أقوى أصدقائنا فقد مصداقيته. كان علينا أن نخرج من وراء الستائر”.
خلال أسابيع من تعيين سلمان ملكًا، ظهرت سياسة إقليمية أكثر حزمًا، ورافقها، كذلك، رغبة بمعارضة واضحة للولايات المتحدة، في توجه ثبتت صحته من استياء سعودي من الصفقة التي وقعها أوباما مع إيران بتسليم برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات والدعم، والتشريع العالمي لإيران بعد 36 عامًا من الثورة الإسلامية، بحسب مسؤولين في الرياض والخليج
المسؤولون الخليجيون الذين تواصلنا معهم في الأسابيع الأخيرة، قالوا إن المخاوف من إيران ستلعب دورًا في التأثير بأكثر خلافات المنطقة ولن تتوافق معهم، أو مع الرياض، مصرين جميعًا أن سيطرة الحوثيين، الموالين لطهران، في شهر آذار/ مارس على اليمن، كانت دليلًا على تثبيت طهران نفسها قبل المحادثات. وفي مكان آخر يؤثر جدًا بالسعودية، على حدودها الشرقية.
قال المسؤول: “سينفقون كل أموالهم لحماية ما يملكون. هم منفتحون جدًا على ذلك. الحرس الثوري يقول إنهم لن يتنازلوا عن دمشق وحزب الله، وإنهم أقوى المؤسسات في الدولة. والآن يريدون اليمن كذلك. لكن هذه حيلة. سيحاولون التجارة بذلك معنا مقابل دمشق”.
من كل هذه الفوضى مؤخرًا -الدمار الكئيب لمهد حضارة، وتقدم الثوار، وقسوة الجهاديين دون رادع-، ظهر وضوح نادر. والآن، القوى الرئيسة في المنطقة عالقة بشكل مفتوح بصراع لمصير المنطقة -وسوريا تحديدًا- يمكن إيقافه فقط عبر حل يتم بوساطة عالمية.
قال المسؤول السعودي: “إيران قالت إن مفتاح العالم العربي هو سوريا. حسنًا، نحن متفقون معها”. والرياض ليست قلقة بعد اليوم على إظهار ذلك.
مركز الشرق العربي