غاضبة، كعاصفة ترعد، وتخفي عن عيون أحبائها المطر..
مقهورة.. والقهر هنا لا يحتاج إلى تبرير أو إلى سبب..
كل ما أعرفه عنها أنها تخدم الثورة، بطريقة أو بأخرى..
لم نعد نسأل ماذا يفعل الناس من حولنا، وما عادت هذه التفاصيل تشغلنا، فالكل يخدم الثورة هنا بشكل أو بآخر..
ما لم أعرفه إلا متأخرة، أن الخدمة تختلف، منّا من يخدمها وهو في برجه العاجي، يحتسي كوب النسكافيه، ويتفضل بدقائق من وقته، يجمّلها باستمرار، ويضع كل دقيقة في إطار، لتزداد في عيون الناس وضوحاً…ومنا من يخدمها وهو يكاد يقضي الليل على الرصيف نائماً إن لم يجد من يحتويه بعد عناء نهار كامل في كدح مستمر، وجهد صامت، لا يعرفه إلا الشخص المعني به، وشوارع المدينة وغرف مشفاها اليتيم ومراكز الإيواء فيها، لا تعرفه إلا دموع المتألمين، ودعوات المقهورين، وأحزان المُغيّبين بقصصهم وسط ضجيج وفوضى اللا إنسانية..
من بين الفتيات هنا.. فريق منسي كبر قبل أوانه، حمل هموم الدنيا فوق كاهله المتعب..
قلوبهن الرقيقة أثخنتها الجراح… شبعت من الإصغاء إلى قصص المآسي، وأرهقت من إيجاد حلول، ومن التجوال في الشوارع بحثاً عن مخرج، ومفاصلة الباعة للحصول على سعر أرخص لغطاء يدفئ عجوزاً مريضة، أو دواء لشخص يكاد يفارق الحياة.. أو ثمن فوط وحليب لأسرة باتت الطفولة فيها أكبر عبء، بدلاً من أن تكون هي البسمة..
القهر هو السائد في حياة هؤلاء الفتيات..، وثورة من مستوى الخمس نجوم لا تليق بإنسانيتهن..
فمن العار في مفاهيمهن أن يخلدن إلى الراحة فيما تقاسي أسرة منسية من العناء…
من العار أن تسرّح فتاة منهن شعرها وتعتني ببشرتها كما باقي الفتيات، وعلى بعد أمتار يعاني الناس من مشكلات القمل والجرب..
ثورة المترفين، النائمين حتى الظهيرة، المتثائبين أمام نشرة الأخبار، العابثين بالأوقات، المتثاقلين عن العمل والجد والجهاد…لا تقبل بها فتاة صاحبة هدف، وهي اللؤلؤة التي تضمها مدينتها المدمرة بحب، فتراها أجمل محارة في الكون…
لابد أن تعاني، لتشعر أن قلبها الصغير لايزال ينبض، لابد أن تغسل الدموع عينيها كل صباح فتجلو الصورة أمامها قبل أن تمتلئ بغبار المدينة ورمادها ودخانها.. وهي التي اتخذتها لنفسها كُحل عِزّة… مادامت تخدمها فهي سيدتها أجمل الجميلات…
وبالطبع فإن أحداً لا يعرف ما يدور من تفاصيل في مدينة باتت تعج بالآلام، ولا يحق لفتاة فيها أن تصرخ، أن تلعن موت الهمم، أن تفتش بين النائمين عن روح تنعشها، ويد تمتد إليها، وقلب يخفق معها بالحب لكل البائسين، وكل الفقراء، وكل المنسيين، وكل المعذبين..
لا يحق لها أن تبكي موت الكرامة بين الناس، فلديها من الكرامة وعزّة النفس ما يمنعها أن تطلب العون، أن تئن ذات وجع، أن تشكو التعب أو الضعف، أو حاجتها لما يؤمن لها أهون سبل العيش..
إنها تتأرجح في صراع قاس بين طبقتين، كل ما فيهما قاتل…
المترفين الذين يتعاملون مع الألم بطريقة تناول المسكنات، وتقديم الدعم كحلّ لإرضاء الضمير…
والمستضعفين الذين يتعاملون مع الألم بطريقة التعايش والتّقبّل..
وهي الوسيط بين هذا وذاك..
وهي حلالة المشاكل… قد اضطرت لذلك لأنها ترى فيما حولها معاني تقتل، ولاسبيل لديها سوى إنقاذها، وهي حبّة البنادول أحيانا التي لا تجد لنفسها ما يسكن آهاتها.. ويداوي جراحها…
إنها العنقاء الجريحة التي تواصل التحليق بكبرياء، وقد داست قلبها وأحزانها ومشكلاتها الشخصية، وتناست نفسها، ودفنت أحلامها لتفدي مدينتها بكل ما تملك…
إنها الروح التي ستبقى تبث في المدينة الحياة، في الحين الذي يجرّحها فيها آخرون، يفرّقون ويتفرقون، يغرقون في الشتات، وفي تفاصيل تضر ولا تنفع، وفي طرق لا تؤدي إلى نهاية..
ستشرق شمس النصر يوماً لأجلها، سيفرح الأطفال بتحليقها، ستبرأ الجراح ببلسم تصنعه كلما مرّت يدها الطاهرة عليها لتعالجها..
ستُشفى المدينة ذات يوم… ولأجلها فقط ستبتسم..
إيمان محمد