كان الصيف حارًّا في تموز عام 2024 والشمس الحارقة تشوي الطرقات، كانت الأجواء على حاجز منبج غير محتملة يقف كل واحد منا تحت أشعة الشمس ينتظر بصبر أن ينتهي التفتيش ، في حين أننا لا نعرف ماذا سيحدث بعد ذلك، كان هناك تسعة حقائب كبيرة لي ولأخوتي ، كان علينا حملها والعبور بها بين الحواجز ، انتظرنا ساعات طويلة مرّت كأنها سنوات ، لم نتوقع الكثير من الرحمة إلا أن الآمال كانت تتسابق داخل صدورنا بأن نتمكن أخيرًا من العبور إلى قريتنا في الشمال بعد خمسة أعوام من الغياب القسري.
وكانت المفاجأة عندما نادى الضابط قائلًا: “معكن تلت دقايق بتكونوا برّا الحاجز”، لا شك أن الكلمة الأولى التي مرت في ذهني كانت “ماذا يعني هذا؟” ، ثم تلتها موجة من الخوف والقلق كنا نعلم أن هذه اللحظة ستكون مفصلية في حياتنا فهل سنتمكن من العودة إلى ديارنا؟ أم أننا سنتلقى نبأ آخر يعيدنا إلى حيث بدأنا؟ أم ستكون هذه نهاية لحلم لم الشمل واللقاء مع أهالينا بعد كل هذه المدة؟.
لم أتمالك نفسي في تلك اللحظات فقد كانت كل خطوة على الأرض وكل حركة تكاد تكون مؤلمة بسبب عبء الحقائب الثقيلة ولكن كان في أعماقنا الأمل … بعض النساء حولي خاصة الأمهات بدأن بالبكاء في حين كانت العيون تحدق في بعضها البعض وكأننا نبحث عن إجابة لأسئلتنا غير المعلنة، ماذا سيكون مصيرنا؟ وهل سنعود مرة أخرى إلى حياة الشتات؟.
في تلك اللحظات الحاسمة أردت أن أجد في نفسي القوة وقلت في نفسي: “إذا حدثت معجزة من الله وعبرت إلى قريتي فلن أعود بعد ذلك أبدًا” كنت أتمسك بتلك الفكرة وكأنها طوق النجاة في بحر من اليأس
ثم، وفي لحظة مفاجئة، نادى الضابط مرة أخرى قائلًا: “جاء أمر بتمريركم، تستطيعون العبور”. كانت تلك هي اللحظة التي توقعت فيها أن يختلط الفرح بالحيرة لكننا اجتمعنا جميعًا في مكان واحد وسرعان ما بدأنا بالدعاء والشكر لله فقد تحقق ما كان يبدو مستحيلًا ، واكتملت معجزة العبور.
لكن هذا العبور لم يكن سهلًا فقد كان يتطلب المرور من أربع نقاط أمنية حاسمة، أولًا كان حاجز جيش النظام البائد الذي لم يكن أقل شدة حيث قاموا بتفتيش الحقائب بعناية كبيرة وكانوا يطلبون منا أن نثبت هويتنا بشكل مستمر ثم مررنا بمنطقة الأكراد حيث كان الوضع أكثر توترًا ثم وصلنا إلى منطقة الجيش الوطني الذين كانوا يوقفونا باستمرار على كل حاجز وانتهاءً بهيئة تحرير الشام التي كانت قريتي خاضعة لسيطرتها،
كانت كل خطوة نحس بها بأننا على حافة الهاوية وأن أي خطأ قد يؤدي إلى عودة رحلتنا من حيث بدأنا أو الوقوف بمنتصف الطريق دون عودة أو وصول.
وأخيرًا وصلنا إلى الحدود الشمالية..تلك المنطقة التي طالما حلمت بأن أعود إليها والوجوه التي استقبلتنا كانت مكسوة بالفرح بيد أن الدموع هي اللغة الوحيدة التي تحدثنا بها ، فالكلمات كانت لا تكفي لوصف حجم الفرح الذي اجتاحنا،
لقد كانت تلك اللحظات أحد أروع تجارب حياتي ، رحلة عذاب تحول فيها الصبر إلى معجزة والإيمان إلى حقيقة تذكرني بأن الأمل لا يموت مهما كانت الظروف قاسية.
ما مررنا به من معاناة عبر الحواجز لم يكن سوى جزء صغير من معاناة ملايين السوريين المهجرين داخليًًا فقد أظهرت التقارير الأممية أن هناك أكثر من 6.7 مليون سوري مشردين داخليًا بسبب النزاع المستمر منذ عام 2011 وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.