لا يوجد بين مكونات الجماعة الوطنية السورية فئة، أو طائفة، تنطبق عليها صفة “الطائفة المظلومة” كالفئة العلوية، المحسوبة بأكملها على نظامٍ اضطهد، على مر السنين عشرات الآلاف من بناتها وأبنائها، وتلاعب بعد انقلاب عام 1963بمصيرها، بتسليحها وتنظيمها ووضعها جماعة سلطوية خاصة في مواجهة مجتمعها الذي شرع يراها من خلال أحكامٍ مسبقةٍ، ظالمةٍ وخاطئة، جعلت منها كتلةً واحدةً ومتراصةً تقف وراء النظام الأسدي، الأمر الذي أنتج حالاً يضمر أزمةً قابلةً للانفجار في أي وقت، ترتبت على واقعتين، تستوقفان مراقب أحوال سورية، هما:
ـ أن ما يُتهم به العلويون من طائفيةٍ لا يقتصر عليهم، وإنما يرجع إلى سياسةٍ مدروسةٍ، مارستها جهة جيشية، ينتمي معظم أفرادها إليهم، استولت على السلطة في الثامن من مارس/ آذار 1963، ثم بنت نظامها “التقدمي” على تكويناتٍ ما قبل مجتمعية، تمحورت أكثر فأكثر حول العلويين، كجهةٍ استهدفت خطط النظام تصليبها، للاتكاء عليها، والحصول على دعمها، من أجل تنفيذ سياساتٍ تحكّمية، يتطلب نجاحها أدواتٍ منظمةً تستطيع استخدامها ضده، مع ما حتّمه هذا النهج من “تأميم” وتطييفٍ للعلويين خصوصاً، وللأقليات بصورة عامة، ومن شقّ الشعب إلى صنفين: واحد يتماهى معها كسلطة قمعية معاديةٍ لمجتمعها، يبقى مرتبطاً بها، مع أنه يتعرّض، كغيره من قطاعات الشعب الأخرى، للقمع والنهب والإفساد، وآخر يعتبر عدواً لها، مهما كانت حقيقة مواقفه، ومن الضروري إرعاب العلويين منه، لإقناعهم بأنهم حالة خاصة كطائفة سلطة، وإنه ليس للتماهي بينهما أية حدود أو فواصل، وليس ولن توجد إطلاقاً أية فروق بينهما كطائفة. لذلك، لا ضير على الطائفة إن استخدمتها السلطة الأسدية دريئةً احتمت بها، نيفاً ونصف قرن، منذ استيلائها على الحكم عام 1963، ونجاحها في تصفية خصومها، وتوطيد أوضاعها بعد عام 1970، مع أنها بذلت جهوداً متنوعةً من أجل تجريدها، كغيرها من مكونات الجماعة الوطنية السورية، مما كانت قد طوّرته، قبل انقلاب عسكر البعث، من حصاناتٍ وطنيةٍ وسياسيةٍ ذاتيةٍ، بالشراكة مع مجتمعٍ لعبت دوراً مهماً في استقلاله ونموه، وقاسمته أفراحه وأتراحه، بدفعٍ من نزعةٍ طبيعيةٍ، غلبت على سلوكها ومواقفها، جسّدها انخراطها القوي في القضايا الوطنية والقومية، السياسية والاجتماعية، الذي لم يكن أقل عمقاً وأصالةً واتساعاً من انخراط غيرها، وعبّر عنها انتماؤها إلى أحزابٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، عابرة للطوائف ومعادية للطائفية، عادت، أو عارضت، الفئات والمصالح التقليدية، وما كانت تسمى “القوى القطرية”، بانتماءاتها المحلية الضيقة، وتبنت مطلب التغيير الاجتماعي بما دعا إليه من مساواةٍ وعدالة اجتماعية وسياسية. بهذه الخلفية، شارك ضباط علويون في انقلاباتٍ عسكريةٍ، وحملوا وعد الحرية، الفردية والعامة، ووعد الوحدة العربية والمجتمع الاشتراكي العادل، إلى السوريين، وتعهدوا أن يبنوا نظامهم على مواطنةٍ لا تعرف تمييزاً أو تفرقة.
ـ وقوع العلويين، كغيرهم من أبناء وطنهم، فريسة وعود عسكرٍ ادّعوا أن استيلاءهم على السلطة تم لأهداف تتصل بتحقيق شعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية”، باعتبارها أحلام (وطموحات) مجتمع علق آماله على العدالة والمساواة، وتراوده الرغبة في بناء عالم عربي موحد، حرّ ومتقدم واشتراكي. حين عجز هؤلاء عن التفاعل بإيجابية، أو بالأحرى رفضوا التفاعل بإيجابية مع حاضنة وعودهم الشعبية الواسعة في سورية، وقرّروا، بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970، إقامة نظام شمولي، ردّاً على هزيمتهم في حرب 1967، وتركهم الجولان من دون قتال لإسرائيل، بدأ تأسيس نظامهم السلطوي بإعادة إنتاج المجتمع، انطلاقاً من حسابات السلطة ومصالحها وبدلالتها، وبسحق الحياة السياسية وضرب أو احتواء الأحزاب والتيارات السياسية والنقابات والمؤسسات الدينية وقطاعات الجماهير المسيسة، ولم يجدوا ترجمة لتقدميتهم القومية/ الاشتراكية غير إسناد سلطتهم إلى ما سبق ذكره من “تكويناتٍ ما قبل مجتمعية”، أتاح لهم تنظيمها وتعبئة قدراتها فرض نمط سيطرةٍ وقمعٍ شمولي وشاملٍ على البلاد والعباد، حشر فقراء الأرياف عامة، والريف العلوي الذي تحدر معظم ضباط الأسدية منه، في أجهزة أمنيةٍ/ عسكريةٍ غدت جوهر وروح نظام أحدث تبدلاً جذرياً، طاول طابع الدولة السورية، ووظيفة مؤسساتها ودورها، بحجة أن تبدلاً كهذا شرط لا بد منه لتحقيق وعود “الوحدة والحرية والاشتراكية” التي تتطلب إطلاق يد السلطة بحريةٍ لا قيد عليها. لذلك، قرّروا التخلص منها، من خلال تعبئة قوى ريفية وعسكرتها، تمحورت حول أبناء ريفي الساحل وحمص بصورة رئيسة، نظمت ضمن أجهزة عنفٍ استخدمت قوة حسمٍ لا تعرف الرحمة في أي صراع داخلي عاشته سورية، أو قرّرت السلطة خوضه، غدت، بقوة الضرورة والواقع، قاعدة وحامل نظام أمني/ استبعادي، عبأها وحدّثها لتلعب، كتكويناتٍ ما قبل مجتمعية، متخلفة وعصبوية، لكنها صارت منظمةً على مستوى السلطة، دورها كقوةٍ يمكنها التحكم بفئات الطبقة الوسطى بصورة خاصة، الحديثة نسبياً، والتي أراد دوماً إحكام قبضته عليها، لاعتقاده أنها الخطر الجدي الوحيد على سلطته في مجتمعٍ سوريٍّ ضعيف الاندماج.
منذ اكتمل تشكلها، فإن السلطة الشمولية تنتهج سياساتٍ تقوم على الزجّ بالعلويين في مواقف وخياراتٍ تنمي خوفهم من مواطنيهم، وريبة مواطنيهم منهم، وتربط مصيرهم به من خلال إيهامهم بأنهم فئةٌ حاكمة وذات موقع خاص، وأن إمساك ضباط منها بأعنة سورية يلزمها بالتماهي مع خياراتهم، بغض النظر عن هويتها وطبيعتها، وبحماية أنفسهم والسلطة القائمة عبر وضع جميع طاقاتها وقدراتها في خدمتهم من دون اعتراضٍ أو تحفظ، مهما كانت سياساتها معاديةً للمجتمع السوري، كما تُلزمهم بالبقاء إلى جانبها، مهما تبدلت الظروف والأحوال.
بهذا النهج السلطوي، تم تقويض دور العلويين الوطني، وشطروا أكثر من أية فئة أخرى إلى قطاعين متداخلين، وغير متماثلين: أحدهما سلطوي والآخر أقرب إلى المجتمعية. وبينما نعم معظم قادة القطاع الأول ومنتسبوه بأنواعٍ من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسلطوية، واجه سواد القطاع الثاني ما واجهته أغلبية السوريات والسوريين، لكنه خضع، في الوقت نفسه، لأحكامٍ مسبقة، وضعته في سلةٍ واحدة مع طائفة جديدة تخلقت في ظل السلطة الفاسدة، ضمت عدداً لا يُستهان به من غير العلويين، وشكلت بالتحالف والتعاون مع قياداتها مكوناً جامعاً اختلط فيه المذهبي بالطبقي، السياسي بالعسكري، العلوي بالسني، المسيحي بالدرزي، والعربي بالكردي، ارتكز على مبدأين: قمع ونهب المجتمع، وتنمية الفساد كحاضنة يتم في إطارها توزيع الثروة، وبالتالي، تدجين الشعب بصفته مصدر خطر داخلي دائم، لا بد من إبقائه تحت العين… والعصا.
وبوقوعها بين فكي مجتمعٍ يرفضها، وسلطةٍ تضعها في مواجهة شعبها، تستحق الطائفة العلوية لقب “الطائفة المظلومة” التي أخطأت مؤسسات العمل الوطني والمعارض خطأ جسيماً بعزلها عن الحراك المجتمعي والثورة، وبإبقائها خارج صفوفها، وعدم إشراكها في أي نشاط وطني ضد النظام. لذلك، يبدو كأن المعارضة تحتسب العلويين على النظام جملة وتفصيلا، وتعتبرهم كتلة لا تمييز فيها، ولا فوارق بين مكوناتها، تتبنّى موقفاً موحداً، يدفعها إلى تقديم أرواح أبنائها رخيصة دفاعاً عن السلطة، وإلى قبول الإبادة في الحرب ضد مجتمعها، من أجل كرسي بشار الأسد.
تعرّض العلويون لظلم مزدوج، فقد حمّلهم النظام أعباءً تتخطى كثيراً قدراتهم كأقلية عددية، أدت إلى إبادة الأجيال الشابة منهم، من دون أن يلوح في أفق الصراع أي أمل في انتصارٍ أو نجاة، وظلموا هم أنفسهم لأنهم لم يقاوموا الأسدية بصورة جدية وعامة، وسمحوا لها بسوقهم إلى كارثةٍ ماحقةٍ باسم حمايتهم من مجتمعٍ لم يشكل يوماً أي خطر عليهم، يماثل، ولو من بعيد، الخطر الذي شكلته سياسات النظام الأسدي، وأنزلت بهم دماراً شاملاً، سيبدل لعقود كثيرة بنيتهم السكانية، وقدرتهم على إعادة إنتاج أنفسهم كياناً مجتمعياً، وسيطاول حتى من يعيش منهم في أكثر القرى بعداً عن المعارك الدائرة في المدن والأرياف السورية.
والآن، والاحتجاز يلف الثورة السورية التي تعاني من تشويهٍ طائفيٍّ أسهم بقوةٍ في كبح حراكها الحر، تمسي الحاجة إلى مراجعةٍ نزيهةٍ لمواقفها من العلويين كمواطنين و”طائفة مظلومة”، وإلى إعادة قطاعات وازنةٍ منهم إلى مكانها الطبيعي من شعبها، حيث يجب أن تتوطّن من جديد، اليوم وغداً وبعد ألف عام. متى نبدأ هذا العمل الوطني الكبير، المطلوب لانتصار الثورة؟
العربي الجديد – ميشيل كيلو