لم تحظ مقولة «الربيع العربي» بإجماع القوى المنخرطة في الإنتفاضات الشعبية التي شهدتها ستة بلدان عربية عام 2011، بل أن التحفّظ على هذه المقولة أو إقتراح بدائل عنها كان الشغل الشاغل لكثير من المثقفين المؤيدين لمسار «الشعب يريد» في بلدهم. بقي أنّ عبارة «الربيع العربي» استطاعت أن تفرض نفسها، وليس فقط لأنّ الإعلام الغربي سارع إلى ترويجها، بل لأن هذه العبارة ـ المقولة، هي الوحيدة التي ربطت بالإسم بين سلسلة الإنتفاضات الشعبية التي حرص المنخرطون فيها على تسمية كلّ منها بـ»الثورة» التي تخصّ بلده، وهي الوحيدة التي امتلكت ناصية المقارنة مع وثبات جماهيرية تغييرية شملت بلدانا عدّة في إقليم من العالم بوقت متقارب، مثل ربيع شعوب شرق أوروبا نهاية الثمانينيات في مواجهة الشيوعية السوفياتية، أو ربيع القوميّات الأوروبية لعام 1848.
تواتر هذا الربيعان الأوروبيّان في تسمية «الربيع العربي»، وإن بقي ذلك في غربة عن الخطابات الرائدة في ذلك الربيع، والتي كانت تقارن الثورة في بلدها إمّا بثورة أو حركة تحرّرية سبق أن شهدها هذا البلد، وإمّا بالذهاب «خبط لصق» لمقابلة صنيع شباب الميادين العربية بصور نمطية رائجة عن الثورة الفرنسية الكبرى.
أمّا المفارقة فهي رواج تسمية «الربيع العربي» لمجموعة مسارات إنتفاضية على أنظمة، أو تصدّع لأنظمة، بل لمجتمعات، بل لكيانات، في حين استأثرت هذه المسارات بتسمية «الثورة» من قبل أنصارها. وهكذا فإن مجموع «الثورات» العربية يعطي «ربيعاً عربياً» لا «ثورة عربية»، وهذا يعكس بشكل أو بآخر تراجع الإهتمام بمغزى الرابطة العربية بين هذه المسارات المتتابعة في مدة قصيرة من الزمن، والتي سيتعمّق الإختلاف بين مآلاتها كلّما ابتعدنا عن الأيّام المشهدية من عام 2011.
«الربيع العربي» كانت مقولة أكثر عمقاً بالتأكيد من التزاحم على الإستخفاف بها، في مزاحمة بين المثقفين المؤيدين للثورة في بلدهم على النظام الحاكم، وبين المثقفين المؤيدين للنظام الحاكم أو المحايدين بينه وبين الإنفجار المجتمعي، على التفتيش عن توصيفات نظرية وفكرية أكثر سيطرة على الواقع. قوّة مقولة «الربيع العربي» من قوّة الإحالات التي تضمّنتها، والمفارقات التي كانت كفيلة بإظهارها. قوّتها في أنّها بحد ذاتها توحي بتعنيف أقلّ لحركة الواقع من المقولات البديلة التي أقترحت.
مع هذا وظّفت المقولة بشكل أساسيّ للبحث عن كلمة سواء بين التيارات المنخرطة في هذه الثورات، من إسلامية وليبرالية ويسارية، فالربيع ربيع بهذا المعنى كتوفيق بين فكرتين بسيطتين، ترددان يومياً على نطاق واسع، وهو أنّ الأنظمة الإستبدادية العربية «لا تعرف الله»، وأنّ هذه الأنظمة معادية للفرد كفرد. التحام هذين السلكين الكهربائيين هو الذي فجّر الغضب العربيّ عام 2011، لكن ما سيتبيّن لاحقاً أنّ التقاطع بين هذه «الإسلاموية بالفطرة» (ضد أنظمة «لا تعرف الله») و»الليبرالية بالفطرة» (ضدّ أنظمة معادية للفرد كفرد) لن يطوّر قالباً حيويّاً للتلاقح والتفاعل بين الخلفيات الأيديولوجية المختلفة، بل العكس: ليبراليون ويساريون وقوميون يرون «الثورة المضادة» بلباس إسلاموي. وإسلاميون يستعجلون إلحاق التيارات المخالفة لهم إمّا بثورة مضادة يطلقها النظام القديم، وإمّا بثورة مضادة يحرّكها أعداء الإسلام العالميون. لا يعني هذا أنّ الأمور نسبية بحيث تضيع المسؤوليات. المسؤولية واضحة في عدم خطو التيارات الإسلامية المنخرطة في «الربيع» أي خطوة جدية بإتجاه التصالح مع فكرة المساواة القانونية بين الناس، وبإتجاه الإقتراب من فهم حركة تحرّر المرأة في العصر الحديث، وبإتجاه إقرار التعدّدية الدينية كواقع إنساني أساسي، وليس كبلاء يُمتحن فيه المؤمنون. وفي المقابل، لم يخط «غير الإسلاميين» خطوات ريادية هم أيضاً، لا لتعريف ما الذي يجمعهم كـ»غير إسلاميين»، وما هو مشروعهم كغير إسلاميين، وما الذي يفرّق نظرتهم عن الإسلاميين عن نظرة الأنظمة المخابراتية العربية «التنويرية». لا يعني هذا أن «غير الإسلاميين» هؤلاء كانوا دائماً طليعيين في مناصرة نضالات النسوة، وكل نضالات تسيّد الفرد على جسده، ولا في إقرار التعددية الدينية على ما هي عليه من عمق وحيوية وضرورة، ولا في فهم مبدئي، غير محكوم بالظرفية التبريرية، لمسألة الأقليات دينية أو إثنية. لقد أظهر الكثير من الإستئصاليين للإسلام السياسيّ أنّهم لا يقلّون في ذكوريّتهم، وعدائهم للمرأة، وعداءهم للتعدّدية سياسية كانت أو دينية أو إثنية، عن عتاة الإسلاميين.
قوّة مقولة «الربيع العربي» في أنّها أوجدت الإيحاء بإمكان التوفيق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، وهذا ما ارتبط بإتفاقهم على مقولة «الدولة المدنية»، لكن ما سيظهر أنّه اتفاق على قاعدة تفريغها من كل مضمون. فالمؤيد للإطاحة العسكرية الدموية بالرئيس المنتخب محمد مرسي بإسم «الدولة المدنية» لن يجدها منقوصة إن كانت دولة عسكرية، وإن استخدم العسكر في هذه الإطاحة صيغة «أهل الحل والربط» من خلال مشهد الشخصيات الدينية والسياسية التي جمعها الفريق عبد الفتاح السيسي يوم أذاع بيان الإنقلاب. أمّا التبني الإسلاموي لمقولة «الدولة المدنية» فإنّه تكشّف بسرعة كإلتفاف وتفريغ للعبارة عن مضمونها، فالمحك كان في مصر مثلاً مسألة الأقباط، وعدم قدرة الاخوان على التحرر من ابتزاز التيارات السلفية على يمينهم، والذهاب إلى حيث الاقرار بالمساواة القانونية الكاملة بين جميع المصريين، مسلمين وأقباطا، شكّل محطة بارزة في الانتكاسة السريعة لتجربتهم في الحكم. جزء من المفارقة، ان هذه المساواة القانونية الكاملة التي لم يقدم عليها أي من الرؤساء «غير الإسلامويين» لمصر، كان مطلوبا من الإسلاميين بالتحديد أن يظهروا القدرة على تبنيها الكامل والناجز.
قوة الإيحاء التوفيقي بين المداخل الأيديولوجية المختلفة وقوة الربط بين المسارات التغييرية في بلدان عربية مختلفة أعطت لمقولة «الربيع العربي» إمتيازاً لم يضمحل إلا بعد سنوات، ومع انتهاء انتفاضات 2011 إلى حيث الاكتفاء بالحديث عن «الاستثناء التونسي»، لجهة التمكن من انجاز دستور واطلاق عجلة التداول على السلطة، في حين كانت كل قيمة «الربيع» ان انتفاضة التوانسة على حكم بن علي لم تبق استثناء لأكثر من أسابيع قليلة، إذ تفجرت بعدها الانتفاضات المصرية فالليبية فالسورية.. لكن هنا أيضاً تبرز مشكلة تضيء على أهمية مقولة «الربيع العربي» قياساً على الاستغراق الزائد عن حدّه في ابتهال كل نخبة لثورة البلد التي تنتمي اليه. فهذا الابتهال الزائد عن حدّه لعب دوراً ما في عدم رؤية أهل ثورة لصنيع ثورة في بلد آخر، بل أنّ الاستثناء التونسي مثلا، على طريق الدسترة والدمقرطة، تضمن ما يجافي كل دسترة وكل دمقرطة من خلال الانقسام الحاد بين إسلاميي تونس وعلمانييها حول الموقف من نظام آل الأسد في سوريا. بدلاً من مقولة تحمل الكثير من السذاجة كمقولة «الربيع العربي» لكن يكفيها التفاؤل بأن الوثبات التحررية العربية متواطئة مع بعضها البعض، صرنا إلى مطرح يشعر فيه كثير من العلمانيين التونسيين وغير التونسيين بأنّه لا مكان لملايين السوريين في خارطة التحرر ما دامت ثورتهم خاطرت بالإطاحة بنظام «علماني» و»تقدمي» و»تنويري» للإتيان بنظام إسلاموي ورجعي بل بإمارات جهادية وإرهابية. التطوّع لاقصاء ثورة السوريين من الحق في النهل من النموذج التونسي للثورات العربية يعد واحدة من أكبر الكوارث الذهنية في مسار السنوات الأخيرة.
واليوم، تتسابق مرجعيات وأطراف مختلفة بالطعن بالربيع العربي ككل، وليس فقط بانتقاد التسمية او اقتراح اخرى، وليس فقط بتبني ثورة من ثوراته واقصاء أخرى، وليس فقط بتبني سردية ليبرالييه دون إسلامييه، او إسلامييه دون ليبرالييه. اليوم، ثمة تقاطع بين خطابات مختلفة للطعن بالربيع العربي ككل، شيطنته هو بحدّ ذاته، كما لو أنّه بلاء سلّط على دنيا العرب وكانت في غنى عنه، وكما لو أنّ الربيع الحقيقي هو الذي يتأتى من خلال عملية قمع هذا الربيع. فهذا يسميه بالخريف، وذاك يسميه بالجحيم، وبينهما من يستعيد كل معزوفة «نظرية المؤامرة»، وهناك من ينحصر كل همّه بتكرار أن «المشكلة في الإسلام» أو أنّ «المشكلة في العرب». صحيح أنّ ربيع الشعوب العربية لعام 2011 أمكن تطويقه إلى حد كبير، والدفع إلى مسارات كارثية في معظم البلدان التي انطلقت فيها الانتفاضات، وصحيح ان الربيع تضمّن «قابلية التطويق»، على نسق «قابلية الاستعمار» التي تحدث عنها مالك بن نبي، لكن «قابلية التطويق»، و»قابلية التخلّع»، و»قابلية الانهزام» يفترض بالحد الأدنى أن لا تماثل بين مسارات انعتاق وبين مسارات إعادة إستعباد الناس. الربيع العربي لم يكن ربيعاً قادراً على تدشين مرحلة انتقال واسعة للديمقراطية في البلدان العربية في سنوات معدودة، وتتحمل آليات قمعه مسؤولية أساسية في نشوب حروب اهلية في معظم البلدان التي شملها، مع هذا، لم يكن خريفاً ولا جحيماً. الجحيم هو أعداء الربيع.
القدس العربي