منذ سنة 2011 حتّى اليوم، لم تُكلف السّلطات اللبنانيّة نفسها شنّ حملة تطهيريّة دمويّة على السوريين في لبنان، على غرار ما قام به الأسد في سوريا. لم تتجاسر على قتل اللاجئ، ولا حتّى رميّه بالبراميل الكيماوية أو ذبحه على الهوية مثلاً.
ليس لأنها قاصرة عن هذا الإجرام الدمويّ فقط، بل لأنها ببساطة تعرف مسبقًا أن خطبة ناقمة تحريضيّة لمسؤولٍ واحدٍ منها، كفيلةٌ بشنّ حملة قتل معنويّ للاجئ واقتلاعه، عوضًا عن امتناعها عن القتل وأثمانه الباهظة. وأن استعراضًا أمنيًّا زجريًا واحدًا، كفيل بإشعال أوار الكراهية والعنف لدى سواد اللبنانيين. متنبهةً لكون المجتمع الدوليّ والعربي ومهما اشتدّ التنكيل والعنصرية والقمع، ناهيك ببيانات الإدانة والشجب العرضيّة، لا يكترث فعليًا لصراعات دولٍ متهالكة، بشعوبها، الأحياء منهم والأموات.
اليوم وبانتهاء النهب الجماعي، وإفلاس الدولة التّي لم يتبق لها أي “ماء وجهٍ” لابتزاز المجتمع الدوليّ بأية مسوّغ، كشفت السّلطة عن ورقتها المتبقية، وأطلقت العنان “للمسخ” العنصريّ، الذي نما في جوفها طوال السنوات الأخيرة.. لم تلجمه وتركته يزحف لكل منزل ويؤجج الضغينة في صدر كل لبناني، ساحقًا في طريقه اللاجئين برجالهم ونسائهم وأطفالهم وكراماتهم الإنسانية ذهابًا وإيابًا. لتُعيد ارتكاب جريمة الأسد وحلفائه والمستفيدين من المقتلة السّورية، متلطيةً وراء ضبابيتها المعهودة وخطابها الديماغوجي المُكرر.
محصلة الترحيل الجماعي
لا أرقام واضحة ودقيقة يُمكن التسليم بها لأعداد اللاجئين الذين رُحلوا في موجة الحملات الأمنية الأخيرة، والممتدة منذ حوالى الشهر ونيف. أو إذا كان هؤلاء يحملون صفة اللاجئ أو النازح التّي أثيرت مؤخرًا، بسبب التكتم الرسمي عن الأعداد، ناهيك بالتضليل المُعتاد للأرقام. وفي هذا السّياق يُشير المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان، محمد حسن، في حديثه إلى “المدن” إلى أعداد اللاجئين المُرحلين منذ مطلع العام الحالي وتحديدًا في شهر نيسان المنصرم، ذلك في معرض حديثه عن الحملة العنصريّة المتفاقمة في الوسط اللبناني على اللاجئين مؤخرًا، قائلاً: “منذ بداية العام الحالي حتى تاريخ 28 نيسان، تم تسجيل 10 حالات ترحيل قسري جماعية، أي ما يقارب 396 لاجئاً، و11 حالة ترحيل فردية، وذلك وفقًا لقواعد بيانات مركز وصول لحقوق الإنسان. ومن هذه الحالات، تم تسجيل 196 حالة ترحيل جماعي و4 حالات فردية خلال الفترة الممتدة من بداية نيسان حتى 28 نيسان”.
وبما أن السّلطات لم تفصح عن الأسباب الحقيقية أو مصدر الإيعاز المباشر للاستعراضات الأمنيّة الأخيرة، فالتساؤل هو ما مصير هؤلاء في الداخل السوري اليوم، بغض النظر إن كانوا معارضين للنظام أم لا؟ يجيب حسن قائلاً: “بعد ترحيل اللاجئين من لبنان نفقد التواصل معهم. بعضهم يدخلون إلى لبنان مرّة أخرى بطريقة غير قانونية عبر مهرّبين، بسبب المخاطر العالية حال عودتهم إلى سوريا. حسب معلوماتنا، يتم استدعاء العائدين إلى سوريا للتحقيق في أفرع أمنية مختلفة، وفيما يتعلّق بالرجال، يستدعون للخدمة العسكرية الإلزامية بعد توقيفهم”. ونظرًا لكون السّلطات اللبنانيّة ادعت أن حملتها الأمنيّة هذه هي لتنظيم وجود السّوريين على الأراضي اللبنانية، والتّي اكتنفتها تدابير وإجراءات تفاوتت من منطقة لأخرى ومن جهاز أمني لآخر، بررت هذه الترحيلات بأن اللاجئين (تستمر السّلطات باختلافها على تسميتهم بالنازحين) لا يملكون أوراق إقامة قانونية، ما يعني دخولهم تهريبًا عبر المعابر غير الشرعية أو خلسةً كما يُشاع، ناهيك بانتهاء صلاحية الإقامة للبعض منهم.
الإقامة كضمان للبقاء
وتستمر عمليات دهم مساكن اللاجئين على مختلف الأراضي اللبنانية وفي ضواحي بيروت، بغية ترحيلهم، بالرغم من التأكيدات التّي بثها قائد الجيش جوزيف عون أمس السبت 4 أيار الجاري، مفادها “أن الجيش سيعطي فرصة لقيام اللاجئين السوريين بتسوية أوراقهم القانونية. كما عيّن ضابط اتصال لتبليغه بأية حالة تجاوز أو ترحيل تحصل”. يشرح المدير التنفيذي لـ”وصول” سبب تخلف سواد اللاجئين عن الاستحصال على إقامات: “تحرم القرارات غير القانونية اللاجئين السوريين من الحصول على حقوقهم ومنع تعرّضهم للاستغلال، في مقدمتها القرار الصادر عن المديرية العامة للأمن العام اللبناني في عام 2015 والذي ينظّم دخول وخروج السوريين من وإلى لبنان، والذي يحتوي على شروط معقّدة للغاية للحصول و/أو تجديد أوراق الإقامة القانونية للاجئين في لبنان، ويعد هذا القرار “غير قانوني” بحكم أن مجلس شورى الدولة قد ألغى هذا القرار وحصر صلاحياته بمجلس الوزراء، ومع ذلك لم تتخذ وزارة الداخلية أيّ تدابير لتنفيذ قرار المجلس، ولا يزال اللاجئون يعانون من مخاطر عديدة جراء هذا القرار”.
ويُشير إلى “أن الحملة الأمنية العشوائية، قد تكون تطبيقًا للقرار الذي أصدره المجلس الأعلى للدفاع القاضي بترحيل اللاجئين الذين دخلوا لبنان بطريقة غير قانونية بعد نيسان/أبريل 2019، والذي يتعارض مع التزامات لبنان للقوانين الدولية، وخلق حالة من الهلع الدائم لدى السوريين عمومًا، خصوصًا بعدما تم ترحيل عدد من اللاجئين الذين يحملون أوراق إقامة قانونية منتهية الصلاحية”.
حالة الهلع تستجد في صفوف اللاجئين المقيمين خلسةً ومن حملة الأوراق القانونيّة، بعدما دعت البلديات اللبنانية السوريين في نطاق أراضيها إلى تسجيل أسمائهم لدى قلمها مع أفراد عائلاتهم، وإحضار أوراقهم الثبوتية وعقود الإيجار في حال وجودها وإقاماتهم المسجلة لدى الأمن العام، ودفتر القيادة وأوراق التسجيل ضمن فترة زمنية محددة، وإلا يعتبر المتخلف عن الحضور غير شرعي وغير قانوني ويرحّل مباشرة مع عائلته إلى الحدود اللبنانية السورية. وصعوبة تأمين إقامة ناهيك بالوقت الضيق المتاح هي من أكثر ما يُعرقل مساعي اللاجئين في “قوننة” وجودهم، ويحول دون تسجيلهم في برامج الإغاثة والمساعدات. فالدولة اللبنانية فرضت مبدأ الكفيل أو الطرف الثالث. ولإيجاده، يعمد الغالبية للاستعانة بسمسار ومن ثم مواجهة العراقيل لدى الأمن العام.
هلع عام
“أوقفنا أولادنا عن المدارس، ونتوارى عن الأنظار مقفلين الباب دوماً. توقفت عن العمل بانتظار انتهاء الحملات الأمنيّة”. هذا باختصار ما يرويه م. ع. (50 سنة، سوري مقيم منذ ما قبل “الأحداث السورية” وانتهت صلاحية إقامته منذ سنتين) لدى سؤال “المدن” عن أوضاعه اليوم، وبعد ترحيل أحد أقربائه وأسرته باستثناء واحدٍ من أطفالهم البالغ من العمر ثمانية سنوات، والذي كان في المدرسة لحظة مداهمة أهله. ويُضيف: “يقطن محمد لدينا منذ حوالى عشرة أيام وانقطع عن أهله منذ حينها، وخشية أن يُصيب أطفالنا المصير نفسه نتمنع عن إرسالهم إلى المدارس. الأولاد قلقون ويطالبون بالمدرسة، خصوصاً أن أكبرهم في المرحلة الثانوية ويطمح للدراسة الجامعية، لكننا لا نجازف بخطر الرجوع إلى سوريا”.
وهنا يشرح مدير مركز وصول قائلاً: أطفال اللاجئين ليسوا جميعهم قادرين على الالتزام بالتعليم بسبب نقص الموارد المادّية، لأن اليونيسف لا تدفع جميع المصاريف، فضلًا عن أنه ليس هناك مدارس لجميع أماكن سكن اللاجئين، المواصلات على سبيل المثال هي عائق بالنسبة لهم، أما الآن بعد عملية الترحيل والترهيب الذي حصل خلال الأيام السابقة، فقد اضطر العديد من اللاجئين إلى إيقاف أطفالهم عن الذهاب إلى المدارس”.
وفيما حققت السّلطات مساعيها من حملة الترحيل التعسفية هذه، في نشر الهلع والذعر في صفوف اللاجئين، نجحت في إخافة غالبيتهم وحثهم على الانقطاع عن التعليم. وهذا الملف المأزوم أساسًا منذ بداية “أزمة” اللجوء في لبنان، ضاعف من معاناة الطلاب اللاجئين المسجلين في المدراس الرسمية، فإلى جانب رداءة العيش في المخيمات والعشوائيات والظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والصحيّة القاسية، والمشكلات التقنية والإدارية التّي يعاني منها الطلاب اللاجئون وذويهم للتسجيل في هذه المدارس، ازدادت هذه الصعوبات في آخر ثلاث سنوات بصورة أكبر، تسبب طرديًا بتوقف نسبة كبيرة منهم عن التعليم والتحاقهم بسوق العمل المتعثر أساسًا.
الانقطاع عن التعليم
في هذا السياق تُشير معلمة في الدوام المسائي في إحدى مدارس الضاحية الجنوبية لبيروت إلى هذه الظاهرة وتبعاتها قائلة: “منذ الشهر وأعداد الطلاب في تضاؤل يومي، البعض منهم يبرر غياب زملائه بكونهم اضطروا للنزوح إلى منطقة أخرى، أما البعض الآخر فيتذرع بالمرض، ونحن نعلم أنهم خائفون من الذهاب إلى المدرسة بسبب حملة الترحيل التعسفية. ونخشى نحن الكادر التعليمي من أن تذهب مساعينا في مهب الريح، بعدما حاولنا في الأشهر الأخيرة تعويض النقص التعليمي على اللاجئين في أشهر الإضراب تارةً بسبب شرط الدمج وتارة أخرى بسبب الإضرابات المطلبية وتقصير وحدة التعليم الشامل عن دفع الأجور، التّي تتلقاها بالدولار االنقدي”.
وشرط الدمج أجج السّجال وأمعن في جعله صراعً سياسيًا / طائفيًا خصوصاً في ظلّ رفض غالبية الطوائف المسيحية دمج أطفالها مع اللاجئين السّوريين في مناطقهم، وتحول الموضوع إلى نقمة لبنانية على اللاجئين الذين يتلقون الدعم والمساعدات “والمئة دولار على الطفل الواحد ليتعلم”. هذا دون الحديث الجديّ والحقوقي في مضمار خصوصية تعليم اللاجئين السوريين بما يتوافق مع مناهجهم الخاصة، كما هو أحقيتهم بالتعليم الأساسي، فضلاً عن كون التعليم هو الحائل الوحيد دون تحول هذا الجيل اللاجئ لجيل متسرب دراسيًا وعاطل عن العمل. هذا السيناريو الذي بات متوقعًا في دولة يحكمها مبتزون وعنصريون.
I was excited to uncover this great site. I need to to thank you for your time for this particularly wonderful read!! I definitely enjoyed every part of it and I have you book marked to check out new stuff in your web site.