مع إطلالة فصل الشتاء وفي أول مطر يهطل في فصل الشتاء لهذا العام وبينما كنت أسير في إحدى شوارع مدينة الرهى أو كما يسميها البعض “مدينة الأنبياء” جنوب شرق تركيا التي تذكرني كثيراً بمدن سوريا الحبيبة، وأستنشق من حبات المطر عبق الذكريات الماضية.
شدني من بين الناس المتسارعين لئلا يصيبهم المطر بحباته المتساقطة.. طفل صغير لم يتعد السابعة من عمره يرتدي في رأسه كيساً شفافاً يقيه من ارتطام حبات المطر، بوجهه وعيونه الصغيرة البراقة وبيديه الصغيرتين المرتعشتين يمسك علباً من المحارم يعرضها للبيع على المارة.
اتجهت إلى الطفل الصغير بخطىً سريعة وعندما دنوت منه، مدّ يده تجاهي يعرض عليّ بضاعته علّي أسعفه بشراء واحدة منها.
أخذت إحدى علب المحارم ودفعت له ثمنها، وسألته “ما اسمك يا بطل؟”
“اسمي يوسف” أجابني بابتسامة الشكر والامتنان.
ابتعدنا من تحت المطر إلى ظل بناء في القريب من الشارع وأردفته قائلاً “من اين أنت يا يوسف؟”
“من ريف حلب ولكن لا أعرف اسم القرية بالتحديد، فقد كنت صغيراً جداً عندما انتقلنا إلى هنا”
“وأين أبوك، ماذا يعمل؟”
فرمقني بنظرة أعادتني إلى مآسي فقدان والدي في العاشرة من عمري، فقد شعرت أنني فيه وأجابني “أبي استشهد عندما كنت في الخامسة من عمري”.
ثمّ راح يحكي لي همومه كشيخ قد أثقل كاهله تعب الحياة وهو الذي لم يبدأها بعد.. “لدي أخ وأخت أكبر مني، هما سعد و حلا وهما أيضاً يعملان مثلي في بيع المناديل، فبعد وفاة والدي جئنا إلى هنا و كرت الهلال الأحمر لا يكفينا لدفع أجرة البيت، ولذلك اضطررت للعمل وأخواتي في بيع المناديل، رغم أني أمقت هذا العمل جداً وأراه نوعاً من أنواع التسول، ولكن ما باليد حيلة”.
أشار يوسف إلى أحد المكتبات القريبة من الشارع والدمعة راحت تشكل ملامحها في عينيه “انظر الى تلك الحقائب المدرسية الجميلة، كم أحلم أن امتلك مثل تلك الحقيبة الزرقاء واستطيع الذهاب الى المدرسة”.
يا له من حلم صغير ويبدو حقاً من حق أي طفل في عيوننا ويا له من حلم عظيم في عيون هذا الطفل الكهل الذي أثقلته الهموم.
حاولت أن أقدم له شيئاً قليلاً أمام تضحياته “هيا بنا يا يوسف لنشتري الحقيبة التي تحب وبعضاً من الدفاتر والأقلام”
فرفض بعزة نفس الرجال “لا لا، شكراً لك، لا استطيع أن أقبلها”
وبعد إصراري الشديد عليه وبعد أخذ ورد وافق أن أهديه دفتراً وبعض الأقلام كعربون صداقة بيني وبين هذا الرجل الذي لم يتجاوز من العمر أوله.
وفي نفس المدينة حيث يعطي مقام النبي “إبراهيم الخليل” روحانية للمكان، يعاني “صالح” الذي اعتاد المسير من حارته “باغلارباش” إلى مقام الخليل يجمع الفوارغ ليعين أمه المريضة في مصاريف البيت التي لا يكفي كرت الهلال إلا جزءاً يسيرا منها، والذي لا يسعفهم بشراء طعام إلا البيض، فكيف سيغدو حال صالح وقد أصبح طبق البيض من السلع الغالية جداً إثر ارتفاع الدولار.
محمد المعري/ المركز الصحفي السوري