اختار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محافظة كيليس على الحدود السورية ليعلن، خلال إفطار حضره عدد من اللاجئين السوريين، أن الحكومة التركية تعمل على مشروع يمنح الراغبين من هؤلاء اللاجئين الجنسية التركية، لم يلتفت إلى السوريين الجالسين أمامه، بل تعمّد النظر إلى الحدود السورية ليقول: سأزفّ إليكم خبرًا سارًا، سنساعد أصدقاءنا السوريين من خلال منحهم الفرصة، إذا كانوا يرغبون في الحصول على الجنسية التركية. إن وزارة الداخلية ستعلن الإجراءات التي يتوجب اتخاذها للحصول على الجنسية.
عندما قرأ أحد السياسيين في بيروت قول إردوغان للسوريين: “نعتبركم إخواننا وإخوتنا، لم تبتعدوا عن وطنكم، لكن فقط عن منازلكم وأراضيكم، لأن تركيا هي أيضًا وطنكم”، حبكت معه النكتة فقال: إردوغان لا يسطو على السوريين الذين فروا إلى تركيا فحسب، بل يسطو أيضًا على شعار حافظ الأسد، الذي كان يقوله للبنانيين: “نحن شعب واحد في بلدين”، رغم أنه كان يعتبر اتفاق سايكس بيكو مؤامرة سلخت لبنان عن سوريا.
يوم الثلاثاء الماضي، كرر إردوغان في إسطنبول طرح خطته لمنح الجنسية التركية لمليونين وسبعمائة ألف من الذين فروا من سوريا، وخصوصًا أولئك الذين تتوافر لديهم مؤهلات قد تفيد تركيا، وقال إن “الدول الغربية تفتح أبوابها لأمثال هؤلاء الأفراد الموهوبين، وليس لدى هؤلاء أي خيار سوى الذهاب إلى الغرب، عندما لا نفتح لهم أبواب المواطنة، نحن نودّ أن ننتفع من علمهم”!
ومرة جديدة حبكت النكتة مع السياسي اللبناني، فقال: سواء كانت دعوة إردوغان تجنيسًا أو توطينًا أو تتريكًا للسوريين، فإنها تذكّرنا تحديدًا بلواء الإسكندرون السوري، الذي ابتلعته تركيا وصار يُسمى مقاطعة هاتاي، والذي ظل النظام السوري يطالب دائمًا باسترجاعه، ولم يتردد بعض المقربين منه في القول، بعدما اشتبك فلاديمير بوتين مع إردوغان، إن روسيا ستساعدنا في استرجاع لواء الإسكندرون السليب، ولكن يبدو أن المصالحة بين إردوغان وبوتين فتحت الباب أمام تتريك ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين!
وفي حين أثار اقتراح إردوغان عاصفة معارضة على وسائل الاتصال الاجتماعي، ترفض هذا الأمر وتعتبره مناورة لمصالح سياسية شخصية تخدم إردوغان، لأن منح الجنسية ينبغي أن لا يكون وقفًا على إرادة شخص واحد، ولو كان رئيس الجمهورية، بل هناك حاجة إلى إجراء استفتاء، كان هناك في المقابل من يصفّق بحرارة لهذا الاقتراح!
التصفيق لم يقتصر على اللاجئين السوريين في تركيا الذي فروا من جحيمين؛ جحيم النظام منذ أربعين عامًا، وجحيم حرب النظام على الشعب منذ خمسة أعوام، ويجدون في التجنيس متنفسًا يفتح أمامهم أفقًا جديدًا، بدلاً من ركوب خطر الموت غرقًا في الطريق إلى الدول الأوروبية التي تمضي الآن في تضييق بواباتها، بل كان التصفيق حماسيًا عند بان كي مون الذي وضع أمام الأمم المتحدة تقريرًا من 39 صفحة ستدرسه في 19 سبتمبر (أيلول) المقبل، ويدعو صراحة إلى توطين اللاجئين، وأثار زوبعة من الغضب في لبنان وفلسطين تحديدًا، وكان تصفيق النظام السوري وراء أبواب مغلقة، فحتى كتابة هذه السطور لم يصدر أي رد فعل أو تعليق على اقتراح إردوغان الذي يقتطع الشعب السوري كما تُقطع الأرض وتُمزق!
قبل الحديث عن اقتراح بان كي مون الذي يفتح بابًا لإسقاط حق العودة للفلسطينيين مثلاً، من الضروري النظر في الأبعاد التي دفعت إردوغان إلى اتخاذ قرار التجنيس أو التتريك؛ ففي نظر عدد من الخبراء والباحثين، ومنهم آيكان أردمير من “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات”، فإنه لا علاقة قطعًا بين تفهّم أوضاع اللاجئين والتعاطف معهم، وإعلان إردوغان الذي يمثل رهانًا واضحًا لخدمة مصالحه السياسية الشخصية على مستويات عدة:
1- إردوغان يبحث عن المزيد من الأصوات التي يمكن أن تضمن لحزب العدالة والتنمية أكثرية الثلثين في مجلس النواب، بعد أن فقد أصوات الأكراد، ومن أصل ثلاثة ملايين سوري، يمكنه أن يحصل على خزّان من مئات آلاف الأصوات المؤيدة بالضرورة، وخصوصًا بعدما أمّن لهم حياة جديدة.
2- إن حصوله على مئات آلاف الأصوات الإضافية، سيتيح له الحصول على أغلبية ساحقة تساعده على تحقيق ما فشل فيه سابقًا، أي تعديل الدستور الديمقراطي البرلماني لجعل النظام رئاسيًا، أو الدعوة إلى استفتاء لتحقيق هذا.
3- إردوغان يريد أن يرسم لنفسه صورة مشرقة أمام الغرب، وخصوصًا بعد الاتهامات التي طالما وُجّهت إليه بأنه يدعم “داعش” ويفتح أمامه الحدود التركية للوصول إلى سوريا فالعراق، وفي هذا السياق يعلّق الدكتور جان ماركو أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرونوبل الفرنسية، بالقول إن إردوغان يريد تحسين صورته أمام المجتمع الدولي، من خلال تسويق صورة تركيا كبلد منفتح على الهجرة، وخصوصًا أن الدول الأوروبية عانت ولا تزال من موجات الهجرة، التي كانت أحد الأسباب التي أدت إلى تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
4- تجنيس إردوغان اللاجئين السوريين يساعد تركيا على دخول مرحلة أكثر استقرارًا بعد ترتيب العلاقات مع روسيا وإسرائيل، ويمكن لسوق العمل التركية أن تكسب المزيد من الأيدي العاملة والخبرات، خصوصًا أن حقبة “المجتمع الشاب” في تركيا تكاد تنقضي، لهذا يمكن أن يساعد دمج مئات آلاف يكدحون بجدٍ وحيوية ونشاط لبناء حياة جديدة، أن يعطي دفعًا للاقتصاد التركي المتعثر.
بالعودة إلى تقرير بان كي مون الذي وضعه بعد جولته في المنطقة تحت عنوان “بأمان وكرامة.. التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين”، من الواضح أنه لا علاقة لمضمونه بالكرامة ولا بالأمانة، لأنه يسهل عليهم التخلي عن حقهم في الاحتفاظ بهويتهم، وفي بعض الحالات مثل فلسطين أصلاً، ومثل لبنان والأردن أخيرًا يمكن أن يصبح مُدمّرًا تمامًا.
يطلب التقرير من تركيا والأردن ولبنان والعراق ومصر تطبيق “النهج الأفضل”، أي استيعاب اللاجئين في كل مجالات الحياة، لأن “الاستيعاب في مصلحة كل الأطراف، بلدان المنشأ والمضيف واللاجئ، وأن الإدماج يعني الاستيعاب الذي يجب أن يبدأ فورًا”، ويبدو واضحًا من خلال القانون الدولي وتحديدًا اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين (لبنان لم يوقّع عليها) أن الاستيعاب يعني تمامًا التجنيس، الذي فعلاً سيكون مدمرًا لبلد مثل لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه أربعة ملايين ونصف المليون، لكنه يستضيف مليوني سوري، وأكثر من نصف مليون فلسطيني، إضافة إلى ثلاثمائة ألف من جنسيات مختلفة.
يبلغ عدد سكان تركيا 80 مليونًا يستطيعون استيعاب ثلاثة ملايين سوري أي بنسبة 0.375 في المائة، أما في لبنان فتصل نسبة اللاجئين إلى اللبنانيين 45 في المائة، والأمم المتحدة لم تفِ بمتوجباتها للمساعدة على تحمّل الأعباء، لهذا يعود السياسي اللبناني الظريف إيّاه ليستكمل حبكته: لماذا لا يأخذ إردوغان المليوني سوري من لبنان ويجنّسهم في إمبراطوريته؟
الشرق الأوسط