لم يخرج من السجنِ أبداً، لا جثّة ولا أي شيء يخصّه، لم نحصل على هويته ولا ثيابه، لم نحصل على شاب على قيد الحياة ولا ميّتاً، مجرّد أنهم أخذوا مبلغ ضخم جدّاَ من المال وقالوا إنّه توفى بهذا التاريخ..
أُضافت “صفاء”، مات أحمد (اسم مستعار) وترك وراءه يتيمين وزوجته، قلب أمّ عايش على الذكريات وأب توفيَ بحسرته.
هذا ما أخبرتنا بهِ صفاء خالة “أحمد” والذي توفيَ في سجون النظام بعمر 24 عاماَ.
كحالِ الآلاف من المعتقلين المُغيّبين في السجون، إلا أنّ جرمهُ كان عظيماً، فقد انشقّ عن صفوف قوات النظام عندما كان لِزاماً عليه أن يرفع سلاحهُ لقتلِ إخوتهِ من المتظاهرين في حمص التي كانت مكان خدمتهِ.
سألتها: فأجابتني أحمد (الاسم مستعار) هو الابن الأكبر لأختي، انشقّ من جيش النظام وعاد للغوطة الشرقيّة في دوما، حينما كانت تحت سيطرة المعارضة، ومكثَ مع والدهِ فترةً، ازداد التشديد والمجازر على الغوطة، خرجتِ الأم والأب مع من تهجّروا قسراً لتكون وجهتهم السويداء، وطلب الأب من أحمد المكوث في الغوطة مطمئناً إيّاه: “أنت ضل هون وأنا رح أدبر أمورك لتطلع”.
في عام 2015 شهدت الغوطة حملة تهجير كبيرة بناء على التصعيد العسكري واشتداد الحِصار والمجازر من قبل النظام المجرم وروسيا.
تُضيف صفاء: بقيَ أحمد بِرّاً بأبيه، وفي عام 2018 كانت المرة الأولى التي تجتمعُ فيها اختي وزوجها مع ابنهم بعد ثلاث سنواتٍ من الفِراق.
في آذار/مارس 2018 تمت التسوية بين النظام والمعارضة عن طريق روسيا، عاد جزء من أهالي دوما إلى بيوتهم بناءً على ضمان روسيا بعدم التعرّض لهم من قبل النظام.
تقول صفاء: بعد اجتماع العائلة بشهر ونصف اعتُقل “أحمد” جرّاء حملة الاعتقالات التي قام بها النظام السوريّ على أبناء دوما وما حولها من المناطق التي كانت بيد المعارضة السوريّة.
وتُضيف اشتدّ حزن الأب، أُصيبَ بالعمى جرّاء البكاءِ على ابنهِ، وما برح يتحيّن الفرص لإلقاء اللوم على نفسهِ: “أنا السبب باعتقاله، أنا يلي ما خلّيته يطلع”
ويسأل الأب الخمسينيّ عن ابنهِ، ما من إجابةٍ تُريح قلبه مطلقاُ.
يمكثُ عامين حزيناً قليل الحيلة، وفي 2020 يُصاب زوج أختي بكورونا في بداية الجائحة، جسدٌ هزيل أضناهُ الفقد والمرض، ويتوفّى الأب “هادي” دون أن يعلم بأنّه ذاهبٌ للقاءِ مع فلذة كبدهِ.
تقولُ صفاء حزينةً: بعد فقدِ زوجها عادت أختي باحثةٌ عن بصيصِ أمل وذلك في منتصف حزيران/ يونيو الماضي، حيثُ طُلِب منها مبلغ ضخم من المال، جمعتهُ بشقِّ الأنفس، لا بأس المهم أن يعود “ابن قلبها” كما وصفتهُ، ويأتيها الخبر: “أملُها في الحياة قد تُوفي قبل عام وثلاثة شهور”
ولا تحصل أختي على جثةٍ لابنها، لا هويّة له، ولا حتّى قميصاً تجدُ فيهِ ريحُ ابنها.
تمكثُ الأم والزوجة العشرينيّة مُثقلتينِ بالفقد والمسؤولية في تربية طفلين يتيمين، عاجزتين عن الرد على سؤال “هادي الصغير” تيتا بابا إيمتى بده يجي؟
وتُعلّقُ صفاء بعدها: بقيت أختي وحيدةً في بيتٍ كبيرٍ فارغ من كلّ شيء عدا رحمة الله سبحانه، بعد أن ذهبت زوجةُ أحمد للعيش مع أهلها هي وأطفالها.
تجيبني صفاء عندما سألتها عن حالهم في دوما: “لما كنّا هناك كنّا نكتب أغلب الأشياء يلي بتصير معنا بوقتها أو بعدها بشوي، حتّى ما ننسى أو أولادنا ينسوا..”.
وتُنهي كلامها:
رحمة الله عليك يا أحمد وجعلك خالداً مُخلّداً في جنّاتِ النّعيم.
مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع