يلازم الحديث عن “رأس المال” الدراما التلفزيونية وصناعتها لا سيما بعد اقتحام التمويل الخاص المشهد الإنتاجي بشكل رفع متوسط عدد الأعمال المنتجة خلال العقد الأخير إلى نحو 100 عملٍ كلَّ عام، ويُحصر تناول رأس المال الدرامي عادة بالجانب المالي وأثره من دون الأخذ بعين الاعتبار مسائل مهمة أخرى أوضحتها تجربة “ابتسم أيها الجنرال”.
يمكن تعيين مصر بوصفها نقطة انطلاق الدراما العربية بعد بدء البث التلفزيوني المصري عام 1960، حيث نشأت خارج النظام السياسي وبالاشتباك معه، وتسود روايات شعبية كثيرة هناك عن مسلسل “هارب من الأيام” الذي حقّق شهرة واسعة، حيث كان مجلس الوزراء يجتمع بعد كل حلقة للبحث في دلالاتها وإسقاطاتها الراهنة على الرَّغم من أنَّ أحداث المسلسل تعود إلى زمن الحكم الملكي، وقد تعرَّض مؤلفه “فيصل ندا” للاعتقال واتُهم بالإشارة الضمنية إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك قبل إطلاق سراحه بفترة وجيزة.
لن يكون غريباً إذاً أن تكون نشأة الدراما العربية سياسية، وأن يكون هامش الحرية الذي عادةً ما يُقاس درامياً بالنص، رأس مالها الرئيس، وحاملها للنجاح في غياب صناعة احترافية، ومنذ ذلك الحين، شهدت الدراما العربية بنسخها الوطنية والقومية المختلفة طفرة كبيرة على مستوى الوعي والإيمان بأهميتها وقدرتها السحرية على ملامسة الشرائح المجتمعية المختلفة مقارنة بأدوات التأثير الاتصالي الأخرى.
ضمن هذا السياق، استثمرت الأنظمة العربية عبر مؤسساتها الحكومية أو الشركات الخاصة القريبة في هذه الصنعة الواعدة ووظّفتها بطرائق مباشرة وغير مباشرة في خدمة الترسيخ السلطوي، فهي إما أداة إشغال وترفيه بأشكال مختلفة كوميدية، تراجيدية، فنتازية، تاريخية وغيرها، أو أداة تبرير وتنفيس تلامس بسقوف مرتفعة مشكلات اجتماعية وسياسية تحمِّل الأنظمة القائمة مسؤولية وجودها واستمرارها من دون الإشارة بالبنان إلى النخبة الضيّقة أو ما يُعرف بالطغمة الحاكمة.
أكثر من ذلك، دخلت الدراما العربية في تشابكات العلاقات الدولية والصراعات الإقليمية حيث استثمرت في إعادة كتابة التاريخ وبناء السرديات والتأطير الإيديولوجي بما يتماشى مع التقلبات السياسية الكثيرة في المنطقة ومحاولات الهيمنة الناعمة على المجال العام العربي، باختصار شديد، لامست الدراما العربية في تمثلاتها المختلفة عدة جوانب من حياة المواطن العربي، وساهمت في رفع ذائقته الفنية مع وجود نجوم ارتقوا بأدائهم لا سيما بعد التطور المضطرد في عناصر الرؤية المشهدية والإخراجية والإبهار البصري إلى مستويات عالمية.
يمكن الإشارة هذا العام إلى مسلسل “الزند.. ذئب العاصي” كنموذج شارح للإبهار على المستوى الفني والإنتاجي، لكنَّ السؤال الإشكالي، وخارج إعجابنا بالطراز الهوليودي للمؤثرات البصرية والموسيقا الملحمية، هو هل سيحجز العمل حيّزاً في وعينا كما فعل “لعنة الطين” و”تخت شرقي”؟ أم سنتعايش معه مؤقتاً كامتداد لهيبات خمس – مسلسل الهيبة – دارت حكاياتها ضمن حبكة صعلوكية وروبينهودية -من روبن هود- تطبع المشاهد مع السلوكيات العصابية وتعيد تدوير سرديات تاريخية لم يعد لمرارتها طعم أمام علقم الواقع؟
الجواب قطعاً لا، والسبب حتماً يتعلق في أنَّ القيمة الاستخدامية لما أُنتج، ونقتبس هنا تعريفاً، رأس المال أكبر بكثير من قيمته التبادلية بشرطيها الرئيسين: المنفعة والندرة، بتفصيل أكثر، نسأل هنا عن المنفعة والندرة التي تقدمها مثل هذه الأعمال خارج إشباعنا مرحلياً بأداءٍ ومستوىً فنيين جيدين مقابل نصٍ وحبكة لا تعدو عن كونها حدوته قديمة، لها مشابهاتها الكثيرة في مخيلتنا من أيام عكاش الثريا ونصار الخوالي وإخوة التراب وليالي الصالحية وغيرها.
ضَمِنَ مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” نجاحه قبل بدء عرضه عندما اشتغل على هامش الحرية كرأس مال درامي واعداً بجديد لا تطوله يد الرقابة ولا تكبّله خيارات العرض وحسابات الربح والخسارة المالية.
ورغم ندرته، لم يقدِّم المسلسل نفسَه على أنه استثناء بمقدار ما حاول التأكيد على أنَّ ما يُعرض من أعمال يمثل الاستثناء الفعلي وليس القاعدة لما يجب أن تكون عليه الدراما العربية بعد عام 2011.
بكلمات أخرى، كسرت الثورات العربية رغم تعثّر مسارها وارتداداتها تابوهات لطالما كان محظوراً الاقتراب منها، لا سيما على المستوى السياسي. وأمام حالة العطالة التاريخية القائمة وانكشاف مسبباتها، لم يعد انتقاد الضبّاط والمسؤولين الفاسدين وتبرئة هرم السلطة قادراً على إقناع المشهد درامياً، كما بات استحضار الماضي وإعادة إنتاجه بالاعتماد على ذاكرة انتقائية للأموات هروباً ساذجاً وغيرَ مبررٍ من أسئلة الحاضر وهموم الأحياء.
من هنا، سعى الكاتب ببراعة اعتادها إلى تقديم نصٍّ عن حياة العاديين الملحمية ونضالهم للبقاء أمام تغول غير عادي للسلطة، وقد استحضر في نصه اقتباسات من كتاب الأمير لميكافيلي لا لمدح الكتاب الذي يعود إلى بدايات عصر النهضة في إيطاليا المقسَّمة، بل للدلالة على إدراك الفصل بين الأخلاق والسياسة في الحكم، ما يتعارض مع الفهم الحديث للدولة وإدخال مفاهيم حكم القانون والحقوق والواجبات والمبادئ الدستورية الملزمة ضمن واجبات نظم الحكم في الدولة الحديثة، وكل ما يسمّيه فرات دائماً بـ”العلك”.
هذا “العلك” أو الحرية هي المعنى الحقيقي للسياسة بحسب حنا آرنت، عالمة السياسة الشهيرة، في إجابتها المبسّطة عن سؤال إشكالي رافق الباحثين والدارسين طويلاً وهو: هل للسياسة من معنى في النهاية؟ تقول آرنت “هناك إجابة بسيطة ونهائية في حدِّ ذاتها إلى درجة أنَّ الإجابات الأخرى تكون غير مجدية تماماً، وهذه الإجابة هي التالي: معنى السياسة هو الحرية”. ولا يعني هذا إلا السياسة التي تستحق الخوض فيها، وليست الواقعية السياسية التي تعدُّ الحفاظ على السلطة هدفها الأعلى.
في ضوء ما سبق، يحقّ لنا أن نسأل سؤالاً مشابهاً لنقدّم جواباً قريباً: هل من معنى للدراما اليوم في الواقع العربي؟ نعم.
معنى الدراما التي تستحق الخوض فيها هو الحرية: تحرّر الإنسان العربي من الظلم والجهل والمرض والجوع والذل وقمع الحريات والطائفية والعصبيات وقمع شخصية الإنسان الفرد.
إذاً الحرية وهامشها الكبير نسبياً كانت رأس المال الدرامي الأهم لدى الروافع الثلاث الرئيسة لـ”ابتسم”، والمؤلف الذي جسَّد عظمة الكلمة وقوتها إذا ما تحرّرت من الرقابة، والممثلون في تأكيدهم على انحيازاتهم الأخلاقية والسياسية، والشركة المنتجة التي استثمرت انطلاقاً من قيمها في مساحة قد يعجز عنها الآخرون، يضاف إلى ذلك الدور الريادي للقنوات العارضة، وهما تلفزيون سوريا والعربي2، اللذين أخذا على عاتقهما مهمة إيصاله للجمهور السوري والعربي بأوسع شرائحه بعدما تهرَّبت منصات عربية وعالمية مختلفة من سقفه المرتفع رغم إشادة بعضها بجرأة ما قدّم ونوعيّته.
رغم ذلك، فإنَّ ما يمكن أن يُشار إليه اصطلاحاً بالقيمة الاستخدامية لرأس المال التي يعبّر عنها في الدراما بالعناصر الإنتاجية والإخراجية لم ترتقِ إلى قوة النص والسيناريو المتين والمحكم، وهي نقاط يجب الاعتراف بها تمهيداً لتلافيها في الأعمال القادمة، بالطبع ثمَّةَ تبريرات لهذا لقصور نتيجة صعوبات خارجة عن الإرادة من قبيل انتقال التصوير من أربيل إلى إسطنبول بعد استحالة استخراج التأشيرات للمشاركين، ما فرض ضغوطاً في الوقت والنفقات على الجهة المنتجة وأدخلها في عدة مشكلات لجهة صعوبة تأمين ممثلي الأدوار الثانوية والكومبارس نتيجة غياب الكوادر العربية الملائمة في السوق الدرامي التركي.
كما واجه المخرج مسألة صعوبة تنفيذ النص إنتاجياً لكثرة مواقع التصوير وعدد الأدوار الثانوية مقارنة بالموارد المتاحة التي استنزف الانتقال بين ثلاث دول جزءاً مهماً منها. وقد نجح بإيجاد حلول مقبولة لحالات إرباك متكررة في مسائل انسحاب بعض الممثلين وعوائق أخرى واجهت تصوير العمل في تركيا، ومنها على سبيل المثال تغيّب مهندس الديكور الرئيسي عن مواقع التصوير نتيجة أسباب لا يمكن التحكم بها.
باختصار ومن دون أي تبرير، اشتغل المخرج في ظروف إنتاجية صعبة جداً حَدَّت كثيراً من قدراته وموهبته الواعدة، وكان من الشجاعة بمكان أن تحمَّل النقد في قضايا لم يكن طرفاً فيها، وسيبقى قبوله المهمة التي تملّص منها كثيرون وتحمّله المصاعب المختلفة لإكمال العمل إحدى الخصال الاستثنائية في مسيرته المستقبلية.
لكن هذا لن يعفيه من نقد واجب فيما يتعلق بغياب اللمسة الإبداعية الأخيرة في بعض المشاهد، وتراجع دوره أمام حضور بعض الممثلين الرئيسيين، كاللواء حيدر ومن بعده فرات، ما أثّر بشكل طفيف على التوازن في توزيع الأدوار ضمن صيغة البطولة الجماعية التي عرفت بها الدراما السورية خاصة.
لقد ظهر ضعف الإخراج أيضاً في بعض المشاهد، مثل المظاهرات، وطول “صفنات” الممثلين دون كلام في بعض المشاهد لتمرير الوقت، وهو مما عانت منه الدراما العربية عموماً، وما بدا كأنه كسبٌ للوقت، وبعض الاستسهال قد يكون مصدره النصّ، في حالة تقديم العلاقات مع إسرائيل.
وقد تكون المبالغات عموماً، و”عدم الدقة” مفيدة؛ لأنها تزيل “الشبهة” عن المسلسل بأنه يصور نظاماً بعينه، وتوسع دائرة التفسير لتشمل أنظمة عربية سلطوية عديدة.
أضف إلى ذلك، برزت مشكلات أخرى، منها ما هو ذاتي يخصّ صعوبات العمل الجماعي في السياق السوري، وآخر بنيوي عن فهم المشاركين في العمل لحدود دور الجهة المنتجة وتدخلها خارج مسألة الرعاية والاحتضان.
بكل الأحوال، نحن أمام عملٍ استثنائي في نجاحه ووصوله، وهو أمر لا يحتاج إلى إثبات، المراكمة على النجاحات والتعلم من الأخطاء والإشارة إليها خارج المناكفات الآنية هو ديدن العمل المؤسساتي الحقيقي، وهو الكفيل في ضوء الظروف الماثلة أمامنا في إعادة إحياء الدراما العربية عموماً والسورية خارج محاولات تنميطها وسجنها، وهو أمر لن يكون معبَّداً بالورود لكنه ليس مستحيلاً.
حمزة المصطفى – تلفزيون سوريا
ev0zcm