نشرت مجلة “إيكونوميست” تقريرا بعنوان “طاغية الحرمان: كيف عنى انتصار بشار الأسد مزيدا من المعاناة لشعبه؟” وقالت فيه: “ارتفعت أسعار الطعام إلى مستويات عالية بدرجة باتت النساء تغلي الحشائش لأكلها. وفي مخابز العاصمة دمشق، يقفز الرجال فوق بعضهم البعض للإمساك بما يمكن أن تتناوله أيديهم مما تبقى من الخبز المدعم. وفي كل أنحاء البلاد تمتد الطوابير أمام محطات الوقود إلى أميال. فيما تحولت أجزاء كبيرة من المدن إلى أنقاض. ولم يعد للعملة المحلية أي قيمة، لدرجة بات فيها السكان يستخدمونها للف سجائرهم”.
وتعلق المجلة: “كان من المفترض أن يكون العام هذا هو عام التعافي لبشار الأسد. فبعد حوالي عقد من الحرب الأهلية، استطاع ديكتاتور سوريا هزيمة معظم المتمردين الذين حاولوا إزاحته من المنصب. وكان يأمل بدفعة أخيرة تؤكد انتصاره. وبعدها تعيد القوى الغربية التي لن تجد بديلا عنه العلاقات الدبلوماسية وتشارك في تمويل عمليات إعادة الإعمار. وحتى الآن لم ينجح هذا الرهان. فالمعارضة التي تدعمها تركيا قاومت هجوما عسكريا على معقلها الأخير في محافظة إدلب. ورغم تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، إلا أنها لا تزال في منطقة شمال- شرق البلاد الغنية بالنفط، وتساعد الأكراد على تأمين سيطرتهم عليها. كما أثرت العقوبات الأمريكية على الاقتصاد السوري، وزادت الأزمة المالية في لبنان من المعاناة. ثم جاء كوفيد-19 الذي ضرب سوريا بقوة”.
وأضافت المجلة أن الأوضاع الإنسانية في مناطق النظام أصبحت أسوأ مما كانت عليه في ذروة الحرب الأهلية كما تقول الأمم المتحدة. وأدت الحرب إلى إضعاف الاقتصاد. وتنتج سوريا اليوم 60 ألف برميل نفط وهو سدس ما كانت تنتجه قبل الحرب. ولم تنتج سوريا من محاصيل القمح العام الماضي إلا نصف ما كانت تنتجه قبل الحرب.
وطالما أودع السوريون أموالهم في المصارف اللبنانية، إلا أن السلطات اللبنانية حدّت في العام الماضي من المبالغ المسحوبة من البنوك، مما ترك السوريين بدون عملة صعبة. ونظرا لتراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار، حيث خسرت 70% من قيمتها، زادت أسعار المواد الأساسية. وفي الوقت نفسه، خفّض النظام من المساعدات والدعم للمواد الأساسية.
ولحماية مصارفها، قامت الحكومة السورية بخفض القروض ومنعت التعاملات بالدولار، وحددت المبلغ المسموح بسحبه. وفاقم فيروس كورونا من الأزمة، حيث تقول الأمم المتحدة إن نسبة 60% من المتاجر السورية اضطرت لإغلاق أبوابها بشكل كامل أو مؤقت. وأعلن النظام عن إغلاق البلاد في آذار/ مارس، إلا أن المواطنين المحتاجين تجاهلوا القيود. وأصبح الثمن من ناحية العناية الصحية واضحا الآن.
وتضيف المجلة أن النظام السوري حاول التستر على حجم انتشار الوباء، وأمر الأطباء لردّ الوفيات إلى الالتهابات الرئوية وليس كوفيد-19. ولم تعلن الحكومة إلا عن وفاة 200 شخص بسبب فيروس كورونا، مع أن الأرقام أعلى بالتأكيد.
وقال منسق شؤون الإغاثة العاجلة في الأمم المتحدة مارك لوكوك: “نعرف أن العدوى منتشرة داخل المجتمع بشكل واسع”. وبحسب دراسة أجراها فريق في كلية إمبيريال بلندن، فعدد الوفيات في دمشق قد يكون أعلى بـ80 مرة من العدد الرسمي، وربما أصيبت نسبة 40% من سكان العاصمة بالفيروس، إلا من لديهم صلات يحصلون على أسرّة في المستشفيات، كما يحمل الأطباء معهم عبوات الأوكسجين لإراحة المرضى.
وفي الماضي كانت هناك دول تسارع لإغاثة سوريا لكنها لم تعد قادرة أو لا تريد المساعدة. فإيران التي دعمت بقاء الأسد، تعاني من عقوبات ولا تستطيع تقديم العون الاقتصادي له. كما أن روسيا، الشريك الثاني للديكتاتور تعاني من عقوبات اقتصادية، ويمكنها المساعدة، لكن السوريين يقولون إن الرئيس فلاديمير بوتين يستمتع بالنفوذ الذي يعطيه اليأس السوري له.
وفي بداية الشهر الحالي، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دمشق على رأس وفد كبير للحصول على عقود في الطاقة والإنشاءات. وقال رجل أعمال سوري موال للنظام: “أصبح منقذونا نسورا جارحة”.
وترسل الدول الأوروبية وأمريكا مساعدات مثل الطعام والدواء لكن ليس من أجل الإعمار، على الأقل لحين التوصل لتسوية سلمية. وراكم ترامب الضغوط على سوريا لدفع الأسد نحو تسوية سياسية تنهي حكمه في النهاية.
وفي حزيران/ يونيو، فرض ترامب عقوبات استهدفت العقود بالعملة الأجنبية بما فيها التحويلات من الخارج التي يعتمد عليها الكثير من السوريين. وأنهت هذه العقوبات آمال النظام بنقل عملياته المصرفية من بيروت إلى دبي. وفرضت الدول الأوروبية عقوباتها الخاصة على الأسد وعائلته والزمرة الموالية له.
وتحاول بعض الدول محاسبة الأسد على جرائمه، حيث يستمع القضاة في ألمانيا إلى أدلة حول تورط مسؤولين سوريين بالتعذيب. وهددت هولندا بفتح قضية ضد النظام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محكمة الجنايات الدولية.
لكن النظام يزداد ضراوة، فبعد أن قام بالقضاء على المعارضة، يعمل الآن على افتراس رجال الأعمال والمزارعين الذين دعموه. ويعمل مسؤولو الجمارك وقادة الميليشيات على حجز الشاحنات ومصادرة البضائع ثم يطالبون برشاوى ضخمة لإعادتها.
ولكي تجمع الضرائب، تستخدم الدولة الجنرالات وأمراء الحرب الذين يقتطعون حصة. وتقوم واجهات وأشخاص يعملون نيابة عن النظام بشراء البيوت والمتاجر بأسعار مخفضة من أبناء الطبقة المتوسطة التي أفقرها النظام.
وقال محلل يزور دمشق بشكل متكرر: “يقوم الأسد بالسيطرة على الاقتصاد لنفسه”. ويتساءل الموالون عن المستقبل، حيث يقول رجل أعمال عن الأسد: “لم أعد أؤمن أنه سينجو”.
وهناك من يحلم بمشاريع بعيدة المنال يمكن أن تخرج سوريا من مأزقها. فلو دفن الأسد خلافاته مع رجب طيب أردوغان، فعندها ستأتي الشركات التركية وتعيد بناء سوريا، حسبما يقول شخص يعرف النظام.
وهناك من يحلمون بإغراء أمريكا عبر التعامل مع إسرائيل التي لم تتوقف غاراتها على أهداف إيرانية داخل البلاد. وفي الوقت نفسه لا يعبر الأسد عن اهتمام بالدبلوماسية، حيث يقول صديق لعائلته: “لم يتغير موقفه منذ اليوم الأول”.
وبعد عقدين في السلطة، أثبت نظام الأسد تصميما على البقاء، ولا يعرف الموالون وعمال الخدمة جهة أخرى تدفع لهم الشيكات. وتقوم الشرطة السرية بقمع التظاهرات الشاذة، أما الجيش فيواصل ضغطه على إدلب.
وانتهت فترة ولاية الأسد الثانية، حيث قيل إنه يخطط لانتخابات مهزلة جديدة. ويقال إنه وزوجته أسماء يحضران ابنهما حافظ البالغ من العمر 18 عاما لتسلم السلطة.
وتختم المجلة بالقول: “بالنسبة لعائلة الأسد، فمجرد البقاء في السلطة هو انتصار”.
نقلا عن القدس العربي