فيما استضافت موسكو الجولة الثانية من “الحوار السوري”، مستفيدة من تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن ضرورة إحياء جهود التسوية في سورية، والتفاوض حول عملية انتقالية بين النظام والمعارضة، ماتزال معظم التحليلات التي تخوض في أسباب طرح موسكو نفسها وسيطاً في الصراع السوري، بعد أن ظلت تأخذ صف النظام، تربط المسألة بمساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استخدام القضية السورية أداة لتحسين علاقاته مع الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، والخروج من العزلة الدولية التي فُرضت عليه بسبب الأزمة الأوكرانية.
قد تكون موسكو تسعى، فعلاً، إلى احتواء التوتر في علاقتها بالغرب، والحد من تأثير العقوبات القاسية عليها. لكن، هناك بالتأكيد أسباب أعمق وراء الاهتمام الروسي المستجد بلعب دور الوسيط في الأزمة السورية، فاختصار الأسباب في محاولة تحسين العلاقات مع الغرب يبدو تبسيطاً كبيراً لأهداف السياسة الروسية، خصوصاً وأن أهمية أوكرانيا لكل من روسيا والغرب لا تقارن بأهمية سورية لكليهما، بدليل اختلاف التعاطي مع المسألتين، ففي أوكرانيا، فرض الغرب عقوباتٍ هي الأقسى على روسيا، منذ عقوبات جيمي كارتر عام 1980، والتي جاءت على خلفية الغزو السوفييتي لأفغانستان قبل ذلك بعام، إلى درجة أنها هددت الاقتصاد الروسي بالانهيار.
من جهة أخرى، لا تبدو روسيا قادرة على تقديم تنازلات مهمة في المسألة الأوكرانية، وبذلك يصبح الربط بين القضيتين غير ذي معنى. فضلاً عن ذلك، تبدو المقاربة الروسية-الأميركية للمسألة السورية، اليوم، أقرب منها في أي وقت مضى. فالطرفان يركزان على جزئية “الإرهاب” في الصراع السوري، لا بل إن واشنطن دعت موسكو، بشكل مباشر وصريح، إلى الانضمام إلى الجهود الدولية لمكافحة “الإرهاب”، بعد حادثة “شارلي إيبدو” الباريسية. وهناك اتجاه لفصل التعاون في المسألة السورية عن الخلاف المحتدم في أوكرانيا. ويرغب الغرب، في هذه المرحلة بالذات، في أن تلعب روسيا دوراً أكثر إيجابية في حل المسألة السورية، خصوصاً مع تنامي القلق من دور الجماعات الجهادية التي ما فتئت تستقطب مناصرين لها في المجتمعات الغربية. يدفع ذلك كله إلى القول إن السلوك الروسي، في هذه المرحلة بالذات، يرتبط بمصالح أكثر جوهرية، وتحديداً بمواجهة النفوذ الإيراني في سورية، واستعداداً لتطورات كبيرة على جبهة المفاوضات في الملف النووي.
قطبة مخفية في الصراع السوري
شكلت الأزمة الطويلة، وحاجة النظام السوري إلى الدعم الخارجي، مناسبة مهمة لكل من روسيا وإيران لزيادة نفوذهما في سورية. لكن، ما بدا وكأنه توافق روسي-إيراني على دعم النظام السوري، كان يخفي وراءه تنافساً حاداً، عبّر عن نفسه بوضوح، في أحد المراحل، في تفجير مكتب الأمن القومي في 18 يوليو/تموز 2012، والذي قضى فيه أربعة من أهم أركان النظام، وجميعهم، بالمناسبة، ينتمون إلى المدرسة العسكرية الروسية.
وتضم المؤسسة العسكرية السورية جيلين من الضباط. الأول، والأكبر سناً، هو الذي نشأ وترعرع في ظروف الحرب الباردة، وفترة التحالف مع الاتحاد السوفييتي، وتدرب على قواعد المدرسة العسكرية الروسية والسلاح الروسي. الجيل الثاني، الأصغر سناً، وهو الذي انتسب إلى المؤسسة العسكرية، في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأخذ يتأثر بشكل متزايد بالمدرسة الإيرانية، خصوصاً بعد حرب يوليو/تموز 2006.
“استغل الإيرانيون تدهور العلاقات الروسية-الأوروبية، بسبب الأزمة الأوكرانية، وعرضوا أن يكونوا بديلاً لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا“
في هذه المرحلة، ونتيجة الحصار والعقوبات التي فرضت عليها، بسبب المواقف من غزو العراق، واغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، أخذت سورية تعتمد بشكل متزايد على الدعم الإيراني، بما فيه العسكري، وتم توقيع معاهدة للتعاون الدفاعي في 16 يونيو/حزيران 2006. وعلى الرغم من أن بنود المعاهدة ظلت سرية، إلا أن آثارها أخذت تظهر في مناحٍ متعددة، منها ارتفاع عدد المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية، وتحول الجيش السوري من الاعتماد على الفرق العسكرية الكبيرة التي يتم وفق المنظور الروسي زجها في المعركة كتلاً ميكانيكية ضخمة، إلى وحدات قتالية أصغر حجماً، تعتمد تكتيكات أقرب ما تكون إلى عمل القوات الخاصة وحرب العصابات (أسلوب عمل حزب الله).
والأكيد أنه مع اندلاع الثورة كان قد تلاشى نفوذ المدرسة الروسية في المؤسسة العسكرية السورية، في مقابل تنامي دور إيران ونفوذها. الأهم من ذلك، أن إيران، ولأنها تفضل العمل في إطار لا نظامي ولا رسمي، ولأنها لا تثق عموماً بأجهزةٍ ومؤسساتٍ، لم تقم هي ببنائها والإشراف عليها فكرياً وسياسياً، فانها تعمد عادة إلى بناء أذرع ذات طبيعة مليشياوية، خارج إطار أجهزة الدولة ومؤسساتها الرسمية. وكما في العراق ولبنان واليمن، نجحت إيران، مستفيدة من ظروف الأزمة السورية في بناء هيكلية عسكرية واقتصادية وأمنية موازية للأجهزة النظامية. هذه الهيكلية أخذت تترسخ، ويتعاظم نفوذها في مقابل المؤسسات التقليدية في الجيش والأمن والقطاع العام والحكومة، والتي كانت تقع، تاريخياً، في دائرة النفوذ الروسي، أخذاً في الاعتبار أن عشرات آلاف السوريين من المدنيين والعسكريين درسوا وتخرجوا في جامعات الاتحاد السوفييتي السابق ومعاهده وأكاديمياته. ومع تنامي الاتجاه إلى تعاون أميركي إيراني في الحرب على داعش يمتد من العراق إلى سورية، أخذ القلق يستبد بموسكو من أن ذلك قد يعني خروجها بالكامل من دائرة التنافس في سورية وضياع أربع سنوات من الاستثمار السياسي والمالي والعسكري الكبير فيها.
حلفاء أم أعداء؟
هذا يدخلنا في السبب الرئيس الآخر للتحرك الروسي، وهو الاحتمال المتزايد للتوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي، يشكل مدخلاً نحو علاقات أكثر وداً بين طهران وواشنطن. فموسكو ترقب بقلق اللقاءات الثنائية المتكررة التي تأخذ، بشكل متزايد، صفة الحميمية بين وزيري الخارجية الإيراني والأميركي، ويجري بعضها في الهواء الطلق، ما يعني أنها بعيدة عن أعين الروس وأسماعهم، فالمفاوضات الفعلية لم تعد تجري داخل السداسية الدولية، إنما تحولت إلى مفاوضات ثنائية بين واشنطن وطهران. وكان الروس ظهروا كالزوج المخدوع، عندما تم الكشف عن المحادثات السرية التي كان يجريها “حلفاؤهم” الإيرانيون مع “الشيطان الأكبر” في سلطنة عمان، وأسفرت عن التوصل إلى اتفاق جنيف المرحلي في نوفمبر/تشرين ثاني 2013. ويدرك الروس، من جهة أخرى، أنهم لن يكونوا حاضرين على أية تفاهمات إقليمية يمكن التوصل إليها، بعد تجاوز عقبة النووي الايراني، خصوصاً في أجواء التوتر مع إدارة باراك أوباما حول أوكرانيا. فالنفوذ في المنطقة يبدو مقسماً على الأقل ظاهرياً بين إيران وأميركا، ولا يبدو أن محاولات الرئيس بوتين، أخيراً، للتدارك ومحاولة تعزيز مواقعه في اللعبة، عبر توثيق التعاون مع مصر، سوف تنجح في إحداث تغيير جوهري في المشهد الإقليمي.
“روسيا اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لتركيا، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 33 مليار دولار“
من جهة ثانية، ينظر الروس إلى إيران باعتبارها منافساً محتملاً لهم في مجال الطاقة، وقد استغل الإيرانيون تدهور العلاقات الروسية-الأوروبية، بسبب الأزمة الأوكرانية، وعرضوا أن يكونوا بديلاً لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، ومع أن هذا العرض غير قابل للترجمة، حالياً، لأسباب سياسية وفنية ولوجستية، الا أن أوروبا لا تخفي أن أحد أهم أسباب استعجالها لحل مشكلة الملف النووي مع طهران هو رغبتها في موازنة التأثير الطاقوي الروسي بالإيراني. ومن جهتها، تدرك إيران أن روسيا كانت، حتى الأزمة الأوكرانية، تستخدمها ورقة تفاوض مع الغرب، خصوصاً في ما يتعلق بمفاعل بوشهر الذي ظل الروس يماطلون في بنائه وتشغيله أكثر من عشر سنوات، قبل أن يفعلوا أخيراً. رفض الروس، أيضاً، تسليم إيران منظومة صواريخ إس 300، على الرغم من أن الإيرانيين سددوا ثمنها. وقد عبر الإيرانيون عن قلة ثقتهم بالروس في مناسبات مختلفة، منها أنهم فضلوا نقل مخزونهم من اليورانيوم المخصب بدرجة 20% إلى تركيا، بدلاً من روسيا، في إطار اتفاق اسطنبول الذي تم التوصل إليه عام 2010، ولم ينفذ بسبب رفض واشنطن الالتزام به. ولا ينسى الإيرانيون أن روسيا صوّتت إلى جانب قرارات مجلس الأمن الأربعة، بخصوص برنامجهم النووي، بما فيها القرار 1929 لعام 2010، والذي فرض عقوبات اقتصادية قاسية ضد طهران، علماً أن تركيا التي كانت عضواً غير دائم في مجلس الأمن حينها صوتت ضده. ويدرك الجميع، اليوم، أن مصلحة روسيا تكمن في استمرارا الكباش الإيراني-الغربي، وفي أن تقبع إيران خارج سوق النفط الدولية أطول فترة ممكنة، وأن تبقى الاستثمارات الغربية بعيدة عن قطاع النفط والغاز الإيراني الذي يشكل منافساً كبيراً لهم، خصوصاً في الأسواق الأوروبية وحتى الآسيوية. ولا تخفِ موسكو اضطرابها لمجرد الخوض في احتمال العودة إلى الأيام التي كانت فيها إيران شرطي واشنطن في المنطقة ووكيلها الاقليمي، خصوصاً اليوم، حيث تمضي إدارة أوباما في سياسة إحكام الخناق على رقبة الدب الروسي.
رد بوتين على “العرس” الإيراني الأميركي
شكلت زيارة الرئيس بوتين إلى أنقرة في ديسمبر/كانون أول 2014، وهي الثانية له خلال عامين، محطة مهمة في العلاقات بين البلدين. جاءت الزيارة في ظروف تباعد تركي أميركي واستباقاً لتقارب أميركي إيراني، كما جاءت في وقت تشهد فيه علاقات كل من موسكو وأنقرة توتراً متزايداً مع الغرب، كل لأسبابه. وكان ملفتاً أن بوتين اختار أنقرة ليعلن منها إلغاء بناء خط الغاز الجنوبي (South Stream) لتغذية أووربا بالغاز. وكان العمل بدأ في هذا الخط عام 2007 ليمر تحت البحر الأسود إلى بلغاريا، متجاوزاً أوكرانيا، وقد أنفقت عليه شركة غاز بروم الروسية 5 مليارات دولار حتى الآن. وقرر بوتين أن يتم تحويل الخط إلى تركيا، وزيادة كميات الغاز التي يتم ضخها إليها بمقدار 3 مليارات متر مكعب، وبحسم يصل إلى 6% من الأسعار العالمية. وقد جعل هذا الأمر تركيا في موقف أقوى تجاه إيران التي تفرض أسعار غاز مرتفعة، كما مكّنها من الاستغناء عن جزء من الإمدادات الإيرانية. وفيما ترفض تركيا الالتزام بالعقوبات الأوروبية والأميركية التي جرى فرضها على روسيا بسب الأزمة الأوكرانية، يبحث البلدان مطارح أخرى للتعاون، بعد أن تعهدت روسيا ببناء أول مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا. وروسيا اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لتركيا، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 33 مليار دولار، يطمح الطرفان بزيادته إلى 100 مليار بحلول عام 2020، خصوصاً بعد تحول تركيا إلى مصدر الغذاء الرئيس لروسيا، نتيجة مقاطعة هذه المنتجات الأوروبية، رداً على العقوبات ضدها، علماً أن التبادل التجاري بين الجانبين تضاعف 30 مرة مقارنة بعام 1999. ويمكن القول إن تركيا هي المستفيد الاقتصادي الأكبر من توتر علاقة روسيا مع الغرب، نتيجة الازمة الأوكرانية، ومن احتدام المنافسة بين روسيا وإيران في سورية. هذا لا يعني، أبداً، أن تركيا سوف تخرج من الأطلسي أو أن روسيا ستدخل حلفاً استراتيجياً مع تركيا، فهناك خلافات كبيرة حول سورية وأوكرانيا وقبرص واليونان، لكن روسيا وتركيا تعدان العدة لمفاعيل التقارب الأميركي-الإيراني المحتمل في حال التوصل إلى اتفاق نووي.
إعادة نظر في مجمل الاستراتيجية
“عند اتضاح الموقف الغربي في عدم السماح بإسقاط النظام السوري عسكرياً، سوف تميل موسكو، على الأرجح، إلى ممارسة اللعبة الأميركية نفسها في موازنة النفوذ السني بالشيعي“
خلال العقد الماضي، وبعده إبّان ثورات الربيع العربي، شكل القلق من تصاعد النفوذ التركي، ووصول تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة في غير دولة في المنطقة العربية، وتأثيرها المحتمل على أقاليم روسيا المسلمة، “السنية” في غالبيتها، أحد أهم محددات الموقف الروسي من ثورات الربيع العربي. وقد وجدت روسيا نفسها تلقائياً في صف المعسكر الإيراني الذي كان يدافع عن “تغوّله” في المنطقة، في مواجهة قوى الإسلام السياسي “السنية” الصاعدة. أما وقد تمت إطاحة الإخوان المسلمين في مصر، وخرج الإسلاميون من الحكم في تونس، واستعادت القوى الشيعية التي تحكم العراق توازنها، بعد صدمة الموصل، وبعد اتضاح الموقف الغربي في عدم السماح بإسقاط النظام السوري عسكرياً، سوف تميل موسكو، على الأرجح، إلى ممارسة اللعبة الأميركية نفسها في موازنة النفوذ السني بالشيعي (تركيا في مواجهة إيران) بعد أن ظلت، خلال العقد الأخير، تستخدم إيران ورقة تفاوض مع الغرب، قبل أن تميل، كلياً، لصالحها لمواجهة الصعود التركي في ظروف الربيع العربي. من هنا، بدأت روسيا تقدم نفسها وسيطاً في الصراع السوري، بعد أن كانت طرفاً أصيلاً فيه، لأنه، بغير ذلك، فإنه من المؤكد أن استثماراتها في سورية سوف تضيع على عتبة توافق إيراني-أميركي، يخرجها كلياً من شرق المتوسط.
العربي الجديد – مروان قبلان