تغيّر مصير سوريا بشكل كبير في 10 يونيو عام 2000، اليوم الذي أصابت فيه حافظ الأسد نوبة قلبية في دمشق، مات على إثرها بعد ذلك، تاركًا وراءه هيكلًا سلطويًا تمّ تشييده بعناية، رسّخ قوة لا مثيل لها في سوريا طيلة ثلاثة عقود. الموروثات الأكثر ديمومة لحافظ الأسد ربطت بين الطائفة العلوية والأقليات الأخرى. ثمّ أذعن حافظ الأسد إلى النخبة السُنية، وأنشأ أجهزة مخابرات فعّالة، والأهم من ذلك كله أنّه عيّن الحاكم القادم لسوريا، ابنه بشار الأسد. ساعد إرث حافظ الأسد بشار على التمسك بالسلطة حتى مع خضوع الحكّام المستبدين المعاصرين لدوامة الربيع العربي.
تقع سوريا في قلب صراع غيّر وجه السياسة في الشرق الأوسط بشكل لا رجعة فيه. في حين أنَّ معظم الأنظمة السلطويّة الأخرى تضاءلت وانهارت في نهاية المطاف، أثبت نظام الأسد أنّه صامد نسبيًا، مما أثار دهشة الجميع. إنَّ بقاء نظام الأسد على الرغم من الحركة المخنوقة المؤيدة للديمقراطية والحرب الأهلية الوحشية الطويلة يمكن تفسيره عن طريق القوة المؤسسية والاستراتيجية التي يتمتع بها النظام. ولاء الجيش، وتفويض من الأقليات والمعتدلين الذين يخشون من سيطرة الإسلاميين، والدعم المستمر من النخبة السُنية، والدعم العسكري من إيران وروسيا كلها عوامل مكّنت نظام الأسد من الوقوف بحزم ضد كل الصعاب. المطالبة المستمرة بالعرش تعكس إرث السلطويّة في سوريا.
نظام الأسد، مثل نظام والده، هو نظام من الأقليات. حُكم مجموعة من السكّان منهم 74٪ من السُنة، تنتمي عائلة الأسد إلى طائفة عرقية ودينية شيعية تُسمى العلويين. هذه الطائفة لها تاريخ غريب ومثير للقلق كأقلية عرقية في سوريا. ليس فقط هناك توتر ديني بين الطوائف الشيعية والسُنية، تنظر الجماعات الشيعية الأخرى إلى العلويين نظرة سيئة باعتبارهم يميلون إلى “الهرطقة”. إنهم أقلية داخل الأقلية.
وفي مجتمع واعٍ بمسألة الهوية مثل سوريا، فإنَّ الانقسامات العرقية والدينية لا تُنسى بسهولة ونادرًا ما تفقد أهميتها. وبصرف النظر عن التقسيم السُني الشيعي، تضم سوريا أيضًا عددًا كبيرًا من الأقليات الأخرى التي تشمل، من بين أمور أخرى، المسيحيين واليهود والأكراد والدروز. السوريون من تقاليد دينية مختلفة يتكلمون نفس اللغة، ويتشاركون إرث الأجداد ولكنَّ سياسات الهوية في العرق والدين دائمًا ما تلعب دورًا هامًا في نظام الحكم السوري.
العنصر المركزي للهيكل السلطويّ السوري هو الدعم الذي تتلقاه البلاد من تحالف يضم جميع الأقليات. في عمل نموذجيّ من المحافظة الذاتية، قدّمت الأقليات طوال تاريخ البلاد الدعم للنظام عن أي بدائل من شأنها أن تضعهم في وضع غير مؤاتٍ، ماديًا واقتصاديًا. يتمتع نظام الأسد، منذ حقبة حافظ الأسد وحتى يومنا هذا، بالدعم الثابت من الأقليات لأنّه يعتبر النظام الحامي لحقوق الأقلية في سوريا، والنظام نفسه ينتمي إلى تلك الأقلية.
وقد ضمنت هيمنة الأقلية المخطط لها بعناية في البيروقراطية والجيش أن تبقى الانشقاقات في الحد الأدنى لها. وعلى عكس الأنظمة الهشة مثل نظام الزعيم الليبي معمر القذافي، وحسني مبارك وزين العابدين بن علي، وقفت أجهزة الدولة والجيش بجانب النظام السوري، ومعظمها لأغراض الحفاظ على الذات. شبكة هيمنة الأقلية الموجودة في سوريا هي محض عبقرية في أنَّ الأقليات تضفي الحماية على أسرة الأسد وعلى بعضها البعض أيضًا. إنها حالة نماذجية للحماية المتبادلة. في ليبيا، على سبيل المثال، كانت مؤسسات الدولة الضعيفة قاصرة على بعضها البعض تعمل في الغالب ككيانات منفصلة لحماية مصالح القذافي والمقربين منه. وكان لا بُدّ لمثل هذا النظام الضعيف أن يفشل ببساطة لأنَّ جهاز الدولة ليس لديه مصلحة وجودية في حماية النظام بمجرد أن أتت المشاكل على شواطئ ليبيا. في سوريا، الوضع مختلف تمامًا.
الخوف من صعود نظام إسلامي، قدّم المعتدلون والعلمانيون قاعدة دعم اجتماعية وفكرية لنظام الأسد. كان نظام حافظ وابنه بشار مسؤولًا عن توظيف سياسة العلمنة من فوق، وهي السياسة التي تحوّلت إلى أعمال عنف وحشية في عام 1980. استرضى بشار الأسد، أكثر من والده، السُنة المعتدلين من خلال إظهار الاحترام للإسلام الثقافي. لكنَّ سياسة الدولة مارست بنشاط إقصاء كل الأصوات السياسية الإسلامية الراديكالية داخل الفضاء السياسي السوري، ومعظمها تحت راية العلمانية.
الخوف من نظام إسلامي يحل محل نظام الأسد، حتى ديمقراطيًا، تعزّز عن طريق التطورات السياسية في تونس وليبيا ومصر. في كل من هذه البلدان أنشأت الحركات الإسلامية المقموعة شبكات سريّة ومع حملاتهم المنظّمة اكتسبت زخمًا مباشرًا بعد انهيار الأنظمة القديمة. انحدرت ليبيا إلى حرب أهلية دموية وأصبحت المعقل الثاني لتنظيم الدولة الإسلامية. مصر، في أول انتخابات حرة في تاريخها، انتخبت حكومة كانت تابعة بشكل علني لجماعة الإخوان المسلمين. الوضع في تونس كان أكثر تفاؤلًا إلى حد ما، ولكن ليس بدرجة كافية لوصفه بالنموذج الناجح؛ إذ يواصل المجلس الوطني الانتقالي النضال في التصالح مع الأصوات الإسلامية.
وعلاوة على ذلك، فإنَّ ظهور منظمة إرهابية شاملة أيديولوجيًا، مُعدّة عسكريًا، ومتقدمة بيروقراطيًا، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، مكّنت بشكل كبير موقف نظام الأسد. يتخذ تنظيم داعش الرقة عاصمة له، وهي مدينة تقع في شمال سوريا وتُعدّ العاصمة الإدارية للتنظيم، وتحلق تلك الجماعة الارهابية فوق سوريا وكأنها نسر يحوم حول فريسته. بالنسبة للعديد من اللاعبين في الشرق الأوسط، وخاصة في الغرب، الاختيار بين محاربة داعش والأسد بات وشيكًا.
صعود تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وهما تنظيمان يسيطران على ثُلث سوريا، لا يمكن أن يأتي في وقت أفضل لنظام الأسد. ومع الضربات الجوية الروسية الأخيرة التي استهدفت معاقل جماعات المعارضة، فإنَّ القوة الوحيدة القادرة على محاربة داعش هي الجيش السوري. القدرة على تكريس القوات البرية في المعركة ضد داعش زادت من أهمية نظام الأسد في الصراع الدائر داخل سوريا.
وبالنظر إلى القوة الاستراتيجية لنظام الأسد، فإنَّ احتمال التخلي عن السيطرة يبدو قاتمًا. وبالتالي، ينبغي أن يختار الحلفاء في الغرب ما بين إشراك الأسد في الحل أو مواصلة قتاله من خلال وكلاء يدفعون سوريا إلى حرب أهلية طويلة، وأكثر فتكًا. سوريا دولة متقلبة بلا حدود، ومتشرذمة بشكل غير مسبوق، ومسلّحة بشكل مقلق. ونتيجة لذلك، فإنَّ السماح بوجود فراغ في السلطة في سوريا سيكرر أسوأ أخطاء أفغانستان، وذلك يعني وضع سوريا في طريقها إلى تفكك أكثر دموية
بشار الأسد مساء يوم توليه السلطة ألقى خطابًا واعدً، ملأ قلوب وعقول الشعب السوري المظلوم. وفي النهاية تغيّرت مواقفه، وأصبح الرئيس سبب التوقعات المنتشرة في جميع أنحاء سوريا، التوقعات بأنَّ نظامه تحطم إلى أشلاء. وانتهت هيمنة بشار الأسد على سوريا. إنَّ السبب في تماسك النظام السوري هو إرث حافظ الأسد وبشار ليس سوى جزء منه فحسب. لقد وضع حافظ الأسد أسس ومصادر الدعم الاجتماعي التي ضمنت بقاء النظام. وكل ما كان متوقعًا من بشار الأسد هو عدم التراجع عن تلك التحالفات.
إنترناشيونال بوليسي دايجست – إيوان24