قدم الشعب السوري الثائر في بداية الثورة, أمثلةً فريدةً في الحراك الشعبي المدني, وطرقاً حضاريةً وأخلاقية في الثورة السلمية التي كانت ومازالت تهدف إلى إرساء مبادئ الحرية والديمقراطية والخلاص من نظام الاستبداد والطريقة الشمولية في الحكم.
فبدأ الشعب السوري ثورته من اللحظات الأولى لعمر الثورة بالصرخة المدوية المنادية بالحرية والمؤكدة على السلمية ووحدة الشعب والأرض, والرافضة لكل أشكال العنف والقتل والإجرام, بل كانت هذه الصرخة المنبعثة من حناجر المقهورين المظلومين هي العقد الذهبي المعبر عن تنوع النسيج الاجتماعي السوري المتماسك, من خلال التأكيد على الأخوة في الوطن “واحد واحد واحد, الشعب السوري واحد”.
وقد اندلعت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد من جنوبها إلى شمالها ومن ساحلها إلى داخلها, وجابت الشوارع والساحات, وقد حمل المتظاهرون فيها أغصان الزيتون دلالةً على سلميتهم المعبرة عن أصالتهم ووحدتهم وحبهم لبعضهم ولبلدهم, إلاّ أن نظام الاستبداد وأجهزته الأمنية وعسكره, أثبتوا ومن اليوم الأول أنهم لا يفهمون إلا لغة الرصاص والقتل والإجرام, بل هم بعيدون تماماً عن فهم الرمزية الكبيرة لتلك الأيادي الحاملة لأغصان الزيتون, أو ربما قد تكون تلك الرمزية قد استثارت نار حقدهم, لذلك واجه أزلام النظام تلك المظاهرات بإطلاق الرصاص الحي على الصدور العارية التي خرج بها المتظاهرون, وأوقعوا آلاف الشهداء الذين سقطوا على الأرض مضرجين بدمائهم خلال مسيرة تلك المظاهرات الخالدة.
وطالت هذه الحملة الوحشية جميع التظاهرات التي خرجت على الأرض السورية, وفي كل المدن والبلدات السورية الثائرة, وأمام هذا الواقع المرير من قتل المتظاهرين وقنصهم في الشوارع والساحات, وقف الثوار أمام أنفسهم وراجعوا حساباتهم, فلا بد من الاستمرار بالثورة السلمية, ولابد من إيجاد حلٍ بديلٍ يحفظ ما يمكن حفظه من أرواح الثوار السلميين, لذلك كان لا بد من تطوير أدوات الثورة السلمية إلى طرقٍ أكثر حيوية وأقل كلفةً, فكانت الدعوات إلى ما يسمى “بالعصيانات العامة, والإضرابات”.
انتقلت الثورة السورية من خلال اتباع سياسة الإضرابات إلى مرحلة جديدة من الصمود والاستمرار, وقد أثبتت دعوات الإضراب أن مؤيدي الثورة في تزايد, وأن شعبيتها كبيرة, فمن لم يجرؤ على الخروج في المظاهرات السلمية للتعبير عن مطالبه في الحرية, تجرأ على العصيان والإضراب, فعند كل دعوةٍ للإضراب, كانت الأسواق تُغلق بشكل شبه تام, وقد شملت حملة الإضراب الشعبي قلب العاصمة السورية دمشق, وانتشرت في أسواق حلب وإدلب وحمص وحماة ودير الزور ودرعا, في لوحة فنية ثورية عبرت عن حب السوريين لوحدتهم, وأكدت على فهمهم العميق للسلمية والطرق الثورية الحضارية.
وقد خُلِدَت مشاهد وصور الإضرابات داخل الأسواق الشعبية السورية في ذاكرة الثورة السورية التي كانت ومازالت وستبقى حيةً في قلوب أنصارها.
مجلة الحدث ـ فادي أبو الجود