يحتاج الحراك الاحتجاجي كي يتحول إلى ثورة إلى اكتساب عدة خصائص، بينها أن يمتلك مقولة من شقين:
شق أول تمتلكه الثورة فيما هي لا تزال في مرحلة الحراك، وهو عبارة عن إظهار عيوب ومساوئ السلطات القائمة والعمل على تضخيمها والمغالاة فيها لإظهارها مساوئ كبرى لا يمكن الحياة أن تسير بحركة طبيعية طالما بقيت هذه العيوب والمساوئ موجودة، لذلك لا بد من تغييرها. ويكون الهدف من العمل على هذا الجانب حشد قوى بشرية واجتماعية مستعدة للنهوض بعملية التغيير، فيتم تنظيمها بطريقة ما وبقدر ما لتتكفل بمهمة التغيير الثورية هذه.
الشق الثاني الذي يجب توافره ليتحول الحراك من مرحلته الاحتجاجية إلى ثورة، هو إظهار أن هذا الحشد الذي تم توفيره بات يمكنه أن يشكل وعداً ملموسا بمستقبل أفضل من الواقع السيئ الحالي. ويكون الهدف من هذا الشق كسب تأييد الجمهور العام، الذي اصطلح على تسميته في سورية الفئة الصامتة، أو تحييد هذا الجمهور كحد أدنى، أي ألا يميل إلى طرف السلطة الخصم.
هذا اختصار بسيط لبديهية سأحاول التعامل معها كأحد المعايير التي ننظر من خلالها إلى «الثورة» السورية. ولكن قبل ذلك لا بد من التنويه النافل بأنه حين نقر أحياناً بانتصار النظام السوري في معركة ما، أو نعترف بإخفاقنا في مواجهته في جانب ما، فلا يعني هذا البتة، إلا للسذّج، أننا بذلك نشد من أزر النظام أو نوهن عزيمتنا. بل العكس تماماً، إذ يتوجب على كل من يريد مصارعة النظام أن يكون لديه تصور دقيق في جميع الأوقات عن مكامن ضعفه وقوته الذاتيين، وعن مظاهر قوة النظام وضعفه.
كما أنني سأقبل باعتماد مصطلح الثورة السورية للدلالة على مجمل المجموعات والممارسات والأفعال التي تتبناها المعارضة الرسمية، أو التي لا تعلن أنها من خارج الثورة. وبهذا المعنى نستثني داعش فقط من كل الموجودات المناوئة للنظام على الأراضي السورية. ولن أخوض في جدال اصطلاحي ومفهومي كان قد أفتى به عدد من الكتاب الصحافيين، خاصة كتاب لبنانيين، منذ أربع سنوات، معتبرين أن تحوّل الحراك السوري من حالته السلمية إلى حالته المسلحة اكتسب مرتبة الثورية بجدارة، معتبرين أن شوائب الفوضى والإجرام التي كانت طاغية على هذا الحراك المسلح لا تقلل من مرتبته الثورية، وذلك باعتماد القياس على ثورات عرفتها البشرية في عصور مختلفة.
إذاً، وبناء على تلك المقولة، لا يمكن الثورات الاكتفاء بشق دون الشق الآخر، فإن اكتفت لوقت طويل بالشق الأول كانت حركة فوضوية ارتجالية هوجاء، وإن اكتفت لوقت طويل بالشق الثاني كانت حركة تأملية ليست قادرة على التواجد في أرض الواقع إطلاقاً.
اقتصر عمل الثورة السورية بمجمله على الشق الأول، إذ بقيت طيلة سنواتها أسيرة إظهار مساوئ النظام وعيوبه وإجرامه، معتمدة ذلك كشكوى تستجدي بواسطتها عون الأطراف الدولية ومساعدتها. وحتى اللحظة ما زال الخطاب الرئيسي لأهم قيادات هذه الثورة، ما عدا القيادات الجهادية، كالجولاني والمحيسني، لا يتعدى النواح والتعداد المكرور لجرائم النظام. وهذا دليل عدم دراية هذه القيادات بما يكفي من شؤون السياسة أو من شؤون القيادة، فهم لا يعرفون أن خطابهم هذا مضى عليه الزمان ولم يعد يسمعه أو يهتم به أحد من السوريين، لأن أغلبهم بات يعرف جميع صنوف جرائم النظام. وإن لم يكن هذا الخطاب موجهاً للسوريين، وهو كذلك، بل موجه للدول، فإن تحشيد الدول لا يكون بالشكوى ولا بالنحيب ولا بالمظلومية.
من يمعن بخطاب هؤلاء القيادات يشعر وكأنهم يكرهون أن يقوم النظام بتحسين سلوكه والتخفيف من بطشه، لأنهم غير قادرين على الاستفادة من ذلك واعتباره منجزاً للثورة بعد أن اعتبروا أن إنجازات الثورة مجرد مساحات الأراضي التي يخسرها النظام ولو كانت لصالح داعش.
لم تستطع الثورة السورية لحد اللحظة امتلاك الشق الثاني من المقولة الثورية، أي إيجاد بديل قادر على كسب التأييد الشعبي من قبل شرائح واسعة من المكونات والمناطق السورية كافة. وهذا ربما نجم عن انقطاع عملية التحشيد قبل اكتمال النصاب الذي بمقدوره النهوض بمهام الثورة، فبخلاف ما تروجه دعاية الثورة، تضاءلت عملية الحشد إلى حد كبير منذ بداية ظهور العمل المسلح الذي جاء مبكراً، فقد تم الإعلان الرسمي عن تشكيلات مسلحة بعد حوالى شهرين ونصف من انطلاق التظاهرات (تأسس لواء الضباط الأحرار في ٩ حزيران/ يونيو ٢٠١١، وتأسس الجيش الحر في ٢٩ تموز/ يوليو ٢٠١١). بعد ذلك ارتفعت تكلفة الانتماء للثورة، فصارت تتعدى السجن والتعذيب إلى خسارة الحياة الشخصية، ما أدى إلى تضاؤل عدد المنضوين تحت لوائها. هذا فضلاً عن أن العمل المسلح بحد ذاته لا يتيح المجال لانضمام النساء ومتوسطي السن وكباره وأغلب المثقفين وأفراد الطبقة الوسطى إليه.
وهكذا، أخذ عدد المشاركين في الثورة يتناقص، مع انكفاء عدد من الناشطين وهروب آخرين الى خارج البلاد. كل هذا دفع بالثورة، التي باتت وجهتها مسلحة بشكل مطلق، للاستعانة بمتطوعين أجانب وفدوا إلى الميدان للمشاركة في الجهاد الإسلامي، وهم الآن يشكلون عدداً وافراً من كتلة عناصر الثورة.
لم تهتم الثورة السورية بعيد أشهرها الأولى، أي منذ تصدّر مشهدها الإعلامي شخصيات مقيمة خارج البلاد، بمخاطبة السوريين والسعي إلى كسب ثقتهم ورضاهم. بل على العكس تماما، كان خطاب قادتها واضحاً في أن «الصامت شريك بالدم»، وأن «من لا يشارك الآن لن يكون شريكاً بعد النصر»، وأن فئات اجتماعية ستتم معاقبتها لاحقاً. وارتضت على نفسها من ذاك الحين ألا يكون لديها جسد بديل أو طرح بديل أو أي شيء بديل من منظومة السلطة، مكتفية بالقول إن الأهمية الوحيدة هي لسقوط النظام، وإن أي شيء يأتي بعده سيكون أفضل منه ولو كان الفوضى.
وكان هذا الكلام الذي لا يُقنع بعوضة بديلاً هزيلاً من محاولات تقديم وعد ملموس تعرضه الثورة على السوريين في محاولة لكسبهم إلى صفها. وصار خطابها المكرور عن مساوئ النظام وجرائمه يشكل أيضاً هروباً من استحقاق تقديم ما هو أفضل منه، فالناس الذين يعرفون النظام جيداً، ربما أكثر من «الثورة»، يحتاجون لتلمّس مقومات مستقبل أفضل حتى يتمنوا سقوط النظام، فهم يريدون أن يروا منذ الآن أن الثورة أصدق من النظام، وهذا لم يحصل، وأن الثورة أكثر أمانة على المال العام من النظام، وهذا لم يحصل أيضاً، وأنها أقل عنفاً واضطهاداً لهم من النظام، وهذا أيضاً لم يحصل، بل هي لم تطرح قيماً أفضل من قيم النظام، ولم تقدّم أشخاصاً أفضل من شخصيات النظام، ولم تُرِ السوريين تجارب أو علاقات أو ممارسات أو أخلاقاً أو أي شيء يفضل ما هو عند النظام. فلم تقدم الثورة أي برهان على الإطلاق أنها أفضل من النظام على أي صعيد وأي مستوى، ولكنها قدمت صورة عن النظام لا ينقصها شيء لتكون صورة أسوأ نظام في التاريخ.
إن تقديم نموذج أفضل من النظام ليس أمراً مضافاً إلى الثورة أو ترفاً سياسياً يمكن الاستغناء عنه. ولا هو حتى صفة مساعدة على انتصارها، بل هو ركن أساسي من أركانها لتكون ثورة. فما لم تستطع الثورة أن تكون في عيون السوريين بديلاً أفضل من النظام، وتحظى بقبول أو تأييد قسم وازن من جميع طوائفهم وجميع مناطقهم وقومياتهم وأديانهم، فسيبقى النظام السوري منتصراً، ليس بقواه الذاتية ولا بدعم حلفائه، بل لعدم وجود ثورة حقيقية.
أدرك أن هذا الطرح يمتلك الكثير من الخطورة، لكن ظروف البلاد تبدو مواتية جداً للنهوض بثورة سورية حقيقية قادرة على حشد أوسع طيف من السوريين، بمن في ذلك الجمهور المحايد وجمهور النظام بل جمهور الثورة أيضاً، فيكون في مقدورها تقديم نفسها كبديل يتمناه أغلب السوريين بجميع مكوناتهم.
الحياة اللندنية