في هذا العقد من العمر القصير ستدرك تماماً كمية التباعد بين عمرٍ نعيشه في واقعٍ مُتعب، وبين عُمرٍ خَلقنا فصوله في بواطننا حتى صدقناها، وبتنا نرتب أوجاعنا لتصل إلى أحلام رسمناها على جدار ينتظرنا في بقايا وطن!
ندين (دمشق، 30 عاما) تقول: لم أكن أعلم أن خبث وبطش قوات النظام سيمر بي ويقسم جسدي إلى نصفين إلا بعد حلول تلك الفاجعة، كنت مجرد أنفاس مؤقتة، تجذبني أمواج الحياة بين مد الحزن وجزر الفرح.
في صباحات الربيع الدافئة، والحصار المفروض علينا في ببيلا من قِبل قوات الأسد، كان يعج الحي برائحة الخبز المنبعثة من الأفران، الممزوجة بشذا الياسمين والقرنفل المنتشر في ذلك الشارع، وأمام منزلي الذي اعتدنا الجلوس أمامه في سنواتنا الماضية، بضحكاتٍ حنونة ما فارقت يوماً وجنتينا، امتزجت فيه تلك الروائح الذكية برائحة الدماء والبارود!
رائحة الموت تنتشر في أرجاء المكان، وزوجي أحمد مُضرجٌ بدمائه أمام شجرة الياسمين، بعد صاروخٍ استهدف فرن الخبز في حيّنا، وقد راح ضحية ذاك الهجوم 30 شهيداً و 70 إصابة.
وجود أحمد جانبي لم يشعرني يوماً بالخوف، كنا على اتفاق بالوقوف معاً في طريق الثورة، والصمود حتى الرمق الأخير لنصرها.
ودائماً ما كان يخبرني عن ذكريات الثورة عند انطلاقها ومشاركتنا سوياً في المظاهرات السلمية آنذاك، وبالرغم من ضيق الحياة، إلا أنني عاهدت نفسي أن أقف بجانب جاراتي وأُصبرهنَّ على فقدانهنَّ أزواجهنَّ.
أنا اليوم أرملة مثلهنَّ وأحتاج إلى من يخبرني بأنه حلم!
أنا الآن زوجة شهيد!
اختاروا لي اللقب الذي تريدونه لأن من كنت أقاسمه كل شيء أصبح في عالمٍ آخر، وترك لي ثلاث وردات في زمن دارت فيه رحى الحرب، زهراتي سلام وسائر وياسمين.
لم أعد قادرة على تأمين لقمة العيش ومقومات الحياة لهم، عناء وتعب ومشقة، عدم استقرار، نظرات مستفزة من أهالي المنطقة، حرمان، وغربة داخلية عصيبة.
حتى عملي في مهنة التطريز التي تعلمتها من أمي في صِغري لا تكفِ قوت سبعة أيام، فأي كرمٍ هذا، وبحكم عاداتنا الدمشقية كمجتمع محافظ مازلت أكره الذهاب إلى مكان استلام سلال الإغاثة والتي أسميها ( سلال الذل والهوان ).
وقد تعرضت لمواقف كثيرة من التحرش اللفظي، وعُرض عليّ الزواج كثيراً، لكني كنت أرفض ذلك لأجل أبنائي الثلاثة، وإخلاصاً لزوجي.
تكمل ندين: بحزن مخاطبةً زوجها.. متناسيةً فقده للحظات وكأنّه أمامها تشكو له تعب الحياة “كبروا الأطفال في الغربة يا فقيدي، ولم نجد أحد نتكئ عليه في هذه البلاد، ليتنا استشهدنا معك في ذاك القصف ولم أرَ ما يحدث الآن من الهوان الذي أنا فيه.
وبدأت تُتمتم بعبارات وصوتها يختنق من لعنة ذكرياتها قائلة: هذه الأرض يا سيدي لا تشبه أرض دمشق، لكن كلاهما شربتا من معينٍ واحد، وهو دماء الشهداء، أسواقها شبه فارغة، والأشياء مرتفعة الثمن، والأهم أنت لست هنا، فكيف لي أن أعيش وحيدةً فيها؟
تستدرك كلامها وكأنها تُجيب على سؤالها، “لكنّ رغبة العيش ستبقى أقوى من أزيز الرصاص، وصوت الحرية القادم من بعيد أقوى من هدير الشظايا، ودماء شهداء الثورة أغلى من هذه الأرض، والمعتقلين سيفرحون يوماً بالنصر والخروج من أقبية سجون الأسد، وسنعود يوماً إلى دمشق وننثر الياسمين والقرنفل على أضرحة شهدائنا.”
قصة خبرية/ محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع