في صباح يوم التحرير، حيث امتلأت شوارع العاصمة السورية بالفرح والهتافات، وقفت أم علي وحيدةً على عتبة منزلها في المعضمية، تذرف الدموع دون توقف. لم تكن الاحتفالات كافيةً لمحو ذكرى أولادها الثلاثة الذين فقدتهم خلال سنوات الحرب؛حيدر، ابنها الأكبر، سقط برصاصة نظام الأسد خلال قصف المنطقة، بينما زاهر، الذي قاتل ضد النظام، أصبح شخصًا من ذوي الإعاقة بعد إصابته بالشلل النصفي. ورغم سقوط النظام، لم تخرج الرصاصة من جسده، ولم يعد قادرا على المشي ليحتفل مع أصدقائه كما كان يفعل من قبل. أما محمد، فقد ترك أولاده أيتامًا بعد أن قتله شظية في الرأس.
تقول أم علي: “مازلت أطالب بالعدالة الانتقالية، وبإنشاء هيئة تسمح لي بالتعويض عن فقدان أبنائي، وتكفل حقوق أيتام محمد، وتضمن لزاهر ذي الإعاقة حقه في المساواة. أريد قوانين عادلة تمنع معاناة أمهات مثلي في المستقبل.”
أما علي، الأخ الوحيد الباقي على قيد الحياة، فقد شعر بالعجز الشديد. أراد أن يزور أولاد أخيه محمد ليطمئن عليهم، وأن يصطحب زاهر للاحتفال في ساحة الأمويين، لكن الطرقات غير المهيأة لذوي الإعاقة والمواصلات العامة غير المجهزة جعلت ذلك مستحيلًا. بدلًا من ذلك، قرر الذهاب وحيدًا إلى سوق الحميدية، ليرى دمشق للمرة الأولى منذ سنوات، بعد أن ظل محاصرًا في المعضمية لعقد كامل بسبب خدمته الإلزامية في الجيش السابق.
أم مروان: “الاحتفالات ليست كافية… أريد الحقيقة ولو كانت قاسية”. لم تكن أم مروان، جارة أم علي وصديقتها في الألم، تشعر بأي فرق بعد التحرير. تقول بمرارة: الاحتفالات لا تعني شيئًا دون عدالة. لن أهدأ حتى أعرف مصير ابني… حتى لو كان جثةً بين الجثث.”
فقدت ابنها مروان على حاجز المعضمية، بعد أن سلم نفسه آخذًا قرارًا بالاستسلام بسبب الجوع أثناء الحصار. كان مروان منشقًا عن جيش التحرير الفلسطيني وانضم إلى الثورة السورية، لكن النظام اعتقله رغم إنهاء إجراءات تسليمه، ولم يعد منذ ذلك اليوم.
وتضيف أم مروان بحسرة: “بحثت عنه في كل مكان… في السجون، والمستشفيات، وحتى في عيون المسؤولين الجدد. لا أحد يملك إجابة. أريد جثته لأدفنه بكرامة، وأعرف أن دمه لم يُهدر”.
ورغم سقوط النظام، لاتزال أمهات مثل أم علي وأم مروان ينتظرن العدالة الانتقالية التي وُعدن بها. يتساءلن: هل سيكون هناك نصب تذكاري يحمل أسماء أبنائهن؟ هل ستُعوض عائلة زاهر بكرسي متحرك وخدمات صحية لائقة؟ هل سيعترف أحد باختفاء مروان ويحاسب المسؤولين؟
في زحمة الاحتفالات، تبقى هذه القصص جرحًا مفتوحًا في ذاكرة الثورة. “لقد خسرت كل أولادي لأرى هذه اللحظة… لكن لا شيء سيمحو دموعي إلا تحقيق العدل.”
وتجتمع أمهات الشهداء في دمشق، يرفعن صور أبنائهن المفقودين، ويطالبن بحقوقهن المشروعة. العدالة الانتقالية ليست مجرد شعارٍ بالنسبة لهن، بل آخر أملٍ لإنهاء معاناة سنوات من الظلم.