يدلي من سقف خيمته أرجوحة تنتهي بسرير، يضمّ السرير إليه، يكلمه يكاغيه يناجيه يضاحكه ويبكي ولا يجيب. تنام في السرير عروسة تبدو عليها أمارات الفقد، وكأن الألعاب تتقمص أرواح الأطفال.
في خيمة توحي على أحزانه بألعاب أطفال، توزعت دون ترتيب يوحي بامرأة تعتني به، يعيش عبدو إلى جوار أمه التي طعنت في القهر والعمر، وشارفت السبعين.
“القهر كبير يمّا”
كيفما اتفقت بلهجتها الفراتية مع جيرانها في المخيم، وبلكنةٍ أقرب إلى منافذ الوجد، قالت أم عبدو “القهر كبير يمّا”، صدّق أنني عرفت أغلب مناطق سوريا، المرحوم كان ضابطًا في الجيش قديماً قبل أن يتوفى، وهذا ما جعلنا كثيري التنقل والترحال، حسب مكان عمله لا حسب سقوط الحوايا المتفجرة والصواريخ المحملة بسمّ الكيماوي.
بعد أن تسرّح من وظيفته قبل الثورة بسنوات، استقرينا في ضيعتنا “أبو الظهور”، لكن الحرب أيقظت فينا بدايات الترحل والانتقال، بحثاً عن ماء الحياة والأمن لا الكلأ فقط عن الأمن، أبنائي نصفهم في لبنان يكابدون لقمة العيش، وآخرون في قبرص، عبدو ابني الذي بقي كان سندي واخي وأبي وأمي، لحين الفاجعة الكبرى فعاد الطفل الذي يحتاج عنايتي وعدت الأم.
الفاجعة :
في رحلة النزوح الطويلة لجأنا إلى بلدة حارم، بين الجبال وعلى تخوم الحدود، وكان عبدو يعمل ويدفع أجرة المنزل ،ويطعمني أنا وعائلته زوجته وابنته “قمر”، وفعلًا كانت قمر بدر في دورته الرابعة من الحياة، إلا أنها لم يكتب لها هذا الشقاء، كان في عمله حين قصفىت طائرة روسية المنزل، كنت في السوق مسكت قلبي بيدي ولم تحملني قدماي ولكني حملت أشلاء الصغيرة وأمها بيدي.
جاء عبدو، كعادته معه أكياس الشيبس والبسكوت للمدللة قمر، ولكن ماذا كان سيفعل أمام هذا القهر، صمت فقط لم يتكلم ولم يبك، ولم يستطيع أن يودعها، قلت لهم، ألقوا على وجهه كفنها, ولكنه لم يرتدّ بصيرًا. ويا ليته بكى ولم يحبس كل هذا القهر.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/444799267093140
نهاية العزاء بداية الفاجعة
تلقينا العزاء في بيوت أقاربنا وعبدو على هيئة الميتة الأولى، لا يتكلم ولا يبكي ولا شي إلا يرد السلام والعزاء، في اليوم الأخير قال لي “يامو لازم نطلع من حارم”
غبطت فيه هذا التعقل، وهذه الكبرياء، هممنا بالخروج أحياء لولا أنّه أصر أن يلقي نظرة الوداع على مسرح الجريمة، جلس فوق أكوام الردم وأشغل سيگارة اثنتين ثلاثة وانفجر بالبكاء.
وصار ينبش الكوم حتى وجد “أصايل” تلك العروسة التي تراها في الأرجوحة، أطلقت ابنته قمر ذات الأربع سنوات عليها هذا الاسم، مسك العروسة وضمها، وكأنها قمر، ثم أدهشني أنه صار يمزق شعرها ويتهمها أنها السبب، فلولاها لخرجت للعب ولم تمت ابنته، ثم صار يضحك ويبكي ويشتم “يمّا القهر الكبير طق عقل الولد”.
اختلطت دموع الذكريات بدموع الرواية، وما زال عبدو يدفع الأرجوحة بكلّ حنانه، ويغني بصوت يشبه صفير الموت، ينذر العالم بالفناء لقاء صمته وتخاذله أمام هذه العصابات المجرمة، التي تقتل الجمال والأقمار أينما وجدت، ويعود ويكرر الغناء:
وينك يا قمر … عم غسّل وشّي.