ماهر علوش _ نداء سوريا
لا أرغب في التطرق إلى مسار أستانا من حيث النشأة والتطور، وقد كتبت في ذلك عدة مرات خلال السنوات الفائتة، ومن أراد مراجعة المنشورات فهي لا تزال في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ما أريد أن أنبه عليه حالياً، وأضعه بين يدي القادة السياسيين والمعنيين على مستوى النخب والمؤسسات، أنه ثمة عامل مهم لا يمكن تجاهله في مسار أستانا، وهذا العامل قديم متجدد، إلا أنه لم يكن سابقاً كما هو الآن، وربما لا يكون لاحقاً كذلك.
الفكرة بشكل مركز جداً، وباختصار.. ما بعد صفقة صواريخ S-400 ليس كما قبلها، والعلاقات الروسية-التركية اليوم وغداً ليست كما كانت في الأمس.. ومن هنا يتوجب على كافة المعنيين فحص خيارات الثورة، والتأكد من المسار الذي عليها المضي فيه، سواء في مسار الحسم أو المناورة، مع الأخذ بعين الاعتبار:
(1) أنها لا تملك القدرة الكافية -ذاتياً- للدخول في خيارات الحسم السياسي أو العسكري.
(2) أنها لا تملك القدرة الكافية -ذاتياً- على المناورة المباشرة بين المحاور الإقليمية والدولية كما تفعله الدول الصاعدة.
وهذا ما جعلها مندفعة ضمن خيارات الحسم والمناورة، بتأثير القوى الإقليمية والظروف الدولية.. ولا أقصد هنا الحسم السياسي أو العسكري في مواجهة النظام، إنما أقصد على وجه الدقة خيارات الحسم ضمن المحاور الدولية، والكتل الإقليمية، كما لا أعني من هذا أن الحسم تم وانتهى الأمر، لكن ثمة أوضاع جديدة في طور التشكل والتنفيذ ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
السؤال الآن: هل يدرك الوفد المفاوض في أستانا هذه الحيثية جيداً؟ وهل يدرك الدور المطلوب منه في خضم هذه الأحداث؟ وما هي الأدوات والأفكار التي يتحرك من خلالها لتحقيق مصلحة الثورة، وتجاوز هذا المضيق السياسي؟ وفي الجهة المقابلة أيضاً هل تدرك النخب الثورية المعارضة لأستانا هذه الحيثية جيداً؟ وما هو المطلوب منها في خضم هذه الأحداث؟ وما هي الأدوات والأفكار التي تتحرك من خلالها لتحقيق مصلحة الثورة، وتجاوز هذا المضيق السياسي؟
وأثناء الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد أن ندرك جميعاً أن كل خطوة تأخذها القيادة السياسية في تركيا باتجاه روسيا سوف يكون لها أثر مباشر في الثورة السورية، وإن كنت حالياً لا أستطيع الجزم بهذا الأثر لعدم قدرتي على:
(1) تحديد أهمية ومكانة تركيا في المشروع الذي تقوده روسيا.
(2) تحديد مدى رغبة روسيا بالتوافق مع تركيا وإرضائها لضمان دخولها في هذا المشروع.
(3) تحديد الأولويات الروسية في العلاقات مع تركيا، والتي من خلالها يمكن تحديد الملفات التي سوف تقدم فيها روسيا الثمن لتركيا.
وتعبيراً عما سبق أضع سؤالاً واضحاً جداً: هل يمكن لروسيا أن تتخلى عن النظام الطائفي في سوريا لصالح بناء واستمرار الدولة السورية بغض النظر عن المشروع السياسي الذي تريده تركيا في سوريا؟ لدي بعض وجهات النظر حيال هذا السؤال، إلا أنها بكل الأحوال غير صالحة في المدى المنظور للبناء عليها؛ لأن العلاقات الروسية-التركية لما تتجاوز بعد مرحلة التوثق، ولا يزال هناك توجس من كلا الطرفين، ما يعني أن الجواب عن هذا السؤال أياً كان غير قابل للتطبيق ما لم تتوثق العلاقات بين البلدين، ويتم تحديد المسار والاتجاه.. والإشكالية الكبرى أنها لن تتوثق قبل أن ندفع جزءاً من ثمن ذلك، وقد دفعنا شيئاً فيما سبق، ومن ثَمَّ كيف يمكن البحث في مستقبل تلك العلاقات والاحتمالات الممكنة ما لم يتم البحث عن كيفية الخروج من مأزق القصف الوحشي الذي تقوم به روسيا على المدن والقرى في شمال سوريا؟
بشكل أولي.. من الملاحظ أن البلدين يحاولان بناء علاقتهما على مبدأ فصل الملفات عن بعضها ما أمكن؛ بهدف منع الوصول إلى طرق مسدودة، وهذا أحد مؤشرات استمرارية ونجاح العلاقات بينهما، وهو يعكس رغبة بين الطرفين على إزالة العقبات، وتعبيد الطريق أمام بناء علاقات إستراتيجية بينهما، ومن هنا فنحن أمام ثلاثة احتمالات في الملف السوري، ويمكن توليد احتمالات أخرى من خلالها تكون أكثر دقة منها:
(1) إما حدوث تقدُّم إيجابي لصالح الرؤية التركية.
(2) وإما حدوث تقدُّم عكسي لصالح الرؤية الروسية.
(3) وإما حدوث انفجار في العلاقات بينهما في أيّ لحظة.
ويمكن استخراج احتمالات أكثر تفصيلاً بناءً على هذه الثلاثة، وذلك من خلال التفريق بين التقدم إيجاباً أو سلباً في المدى القريب والمتوسط والبعيد.. وبالجملة أرى ترتيب هذه الاحتمالات بحسب ورودها.. إلا أن جميع هذه الاحتمالات ترتبط إلى حد كبير في:
(1) رؤية تركيا ونواياها الحقيقية تجاه الثورة السورية، ومدى براغماتية صانع القرار في ذلك.
(2) قدرة تركيا على تطبيق رؤيتها، وتحدي رؤية روسيا وموقفها المتصلب الداعم لنظام الأسد.
(3) قدرة روسيا على الاستجابة للمطالب التركية، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود إيران وتأثيرها.
وفي كل الأحوال -وهو أسوأ ما يحدث الآن- لا يمكن إحراز أيّ تقدم قبل أن تقوم روسيا بتأمين خياراتها في شمال سوريا، بحيث تمنع حدوث أيّ مفاجآت فيما لو:
(1) استدارت القيادة السياسية في تركيا مجدداً نحو الغرب.
(2) أو أصرت على البقاء في المنتصف إلى مدى أبعد مما وصلت إليه.
وفي تتميم هذا السياق لا أعتقد أن تركيا -بقيادة العدالة والتنمية- تتحرك بنظرة أحادية تجاه الشراكة مع قوى الإسلام السياسي في سوريا والمنطقة العربية عموماً كما هو شائع في بعض الأوساط السياسية، بل أرى أن تركيا أقرب إلى قيادة مشروع علماني متصالح مع الهوية الإسلامية، ولا أرى أن دعمها للإسلام السياسي ينبع من الأيديولوجيا بقدر ما ينبع من المصالح المشتركة، حيث لا تجد مصالحها تتكامل مع القوى العلمانية في المنطقة العربية، والتي غالباً ما تتخذ موقفاً عدائياً من تركيا، على اعتبار أن العدالة والتنمية يتم تصنيفه على القوى الإسلامية.
والمقصود من هذه التتمة إبراز فكرة مهمة، أعبر عنها باختصار: (قوى الإسلام السياسي -تنظيمياً-، والمشروع الإسلامي -فكرياً-، لا يمثلان عائقاً أمام تركيا في بناء التوافق حول سوريا فيما لو كانت المقاربة الإقليمية-الدولية تقصي الاثنين معا)، إلا أن هذا يرتبط إلى حد كبير بإقصاء النظام، وتغيير بنيته المحلية، على أساس البَدْء بعملية التحول الديمقراطي، دون المساس في تموضعه الإقليمي والدولي في أقل الأحوال.
ماهر علوش _ المصدر: نداء سوريا