” أسوء لحظة في حياتي كانت عندما اضطررت لأترك دراستي في جامعة دمشق مكرهة بسبب الاعتقالات المتكررة في حرم الكليّة” هكذا تقول ريمة عندما تحدثت بحرقة عن حلمها الذي لم يتحقق في أن تصبح
مترجمة مختصة بعد أن تهجرت من دمشق.
_لم تقولي لي إلى الآن ما اسمك؟
_ اسمي ريمة
_إذاً، لماذا تبدين حزينة جداً؟
_ أحس بأنني بعيدة كل البعد عن نفسي فأنا أعيش حياة لا تشبهني ولم أرسمها بإرادتي.
_هذه أقدار الله، كلنا سجناء في هذا العالم.
_نعم ، هل بالغت قليلاً؟
_ لا ، تحدثي فأنا أسمعك .. أحب سماع قصص الناس الغرباء.
_كانت أيام دراستي كلها مفعمة ومليئة بالإنجازات والتكريمات ،فشغفي بتحصيل العلم وحفظ الكتب عن ظهر قلب بل والتهامها كان محور شبابي ، كنت أدمن المشي في ممر منزلنا الجانبي الطولي وأنا أردد عاليا معلوماتي، لا أدري كيف أشرح إدماني هذا، كنت أهرب وأنا طفلة في الثانية عشر من عمري كل ليلة من غرفة نومنا أنا وإخوتي لأختبأ في غرفة الضيوف، وأشعل المصباح الذي يميل إلى اللون الأصفر الكئيب ، وحيدة واستمتع بقراءة روايات وكتب شعر كان يجمعها والدي، من لحظات حضور الحفلات والأعراس وجمعات الأصدقاء.
ريمة فتاة في ريعان شبابها ، واسعة العينين ، ذكية ، هادئة وتحب الحياة والناس..
تصمت قليلاً مستذكرة لحظات يملؤها الضحك والتعب وتروي تفاصيل بدء رحلتها الدراسية بهدوء ممزوج ببسمة حزينة :” تدافع والدي مع الشباب على الطابور المصطف أمام شباك شعبة شؤون الطلبة وتلك الموظفة الأربعينية المنفعلة ، بوجه نحيل جداً وشعر مشدود إلى الخلف بشكل مبالغ فيه، تضع أحمر شفاه فاقع اللون على شفهاها التي بالكاد ترى بالعين، كانت تتحدث بصوت منخفض جداً وتجبر الواقف أمامها على إدخال رأسه في الشباك كالنعامة حتى يكمل أوراقه.. مع هذا غاص والدي في ازدحام وعشوائية التسجيل وفي غضون دقائق خرج أشعث الشعر وأزرار قميصه العليا مفتوحة وقد سقط حذاؤه من قدمه اليمنى وقال لي ضاحكاً: انتهينا”..
تزامن اندلاع الثورة السورية مع بدء سنتها الأولى في الجامعة، تفجيرات على طريق الذهاب أو الإياب وقصف على بلدات تمر بها في طريقها، خوف ورعب يسيطر على الركاب كلما استوقفهم الحاجز الأمني.
وتصف إحدى لحظات الرعب قائلة: ” صعقنا حين استيقظنا على اهتزاز الأرض من تحتنا يوم تفجير القزاز واضطررت للعودة إلى منزلي سريعا بسبب مواجهتنا لتفجير آخر على الطريق المؤدي إلى الكلية.
تقول ريمة :” استفزاز يتكاثر يوماً بعد يوم في حرم الكلية بين أبناء الطوائف المختلفة، وكلام غير مفهوم كان يتحدث به زملائي وزميلاتي المسيحيين الذين كنت أقضي كل يومي معهم في حلقات عمل مشتركة” وبدت عليها علامات الخوف حين وصفت اليوم الذي ودعت فيه مقعدها في جامعة دمشق:” حين دخلت حرم الجامعة ظننت أنني أخطأت الباب ودخلت فرع الأمن العسكري الذي يلاصق باب الكلية تماماً .. لقد كان رجال الأمن في كل مكان ، رائحة الرعب تنبعث من تحت الأرض، رجال مدججون بالسلاح ويمسكون بالهراوات برداء أسود، بدت رؤوسهم أضخم من رؤوس الرجال العاديين ، رقابهم أثخن، لحى مرخية ، ونظرات مجنونة تتعطش للقتل والدم.
امتدت يد من خلفي وسحبت صبية لا ترتدي الحجاب من جانبي ثم على صوت خشن: “أين بطاقتك أيتها الحيوانة ؟” ردت الفتاة المذعورة : لا أعلم لا أعلم لقد نسيتها في المنزل.. فصاح أحدهم:” خذوها”
امتنعت ريمة بعدها عن الذهاب إلى جامعتها إثر حادثة أكثر فظاعة قام بها عناصر الأمن أمام كلية مجاورة فقد اعتقلوا جميع الفتيات” المحجبات” من أمام كلية الاقتصاد في البرامكة .
هُجرت بعدها ريمة وعائلتها قسراً بسبب الحصار من دمشق لتعيش في بلدتها الأساسية في الشمال السوري حيث مسقط رأسها ومنزلها الواسع الذي تحكي كل زاوية من زواياه حكاية لاتنتهي، كان المنزل قديم ولكنه مرتب، يخيل للناظر بأن حديقته مليئة بالكاكاو بدلا من التراب، تضحك ريمة وتقول :” يا إلهي ، إن أمي تستيقظ كل يوم لتنقي الحصى والحجارة من تراب حديقة منزلنا ، لقد جعلته جنة من أشجار وورد وزرع..”
وبعد فترة تلقت اتصالا من صديقتها “دونيز” لتخبرها أنها على وشك أن تشمل بقرار الفصل بسبب الغياب، هنا قررت ريمة العودة لتوقف تسجيلها رسمياً أملاً بالعودة قريباً واستكمال الطريق..
تحدثت بكلمات يشوبها الخوف حين استطردت تروي لحظات عصيبة جدا شعرت بها حين مرت مع والدتها على حاجز يعد من أقوى حواجز النظام في الشمال السوري وأكثرها رعبا وهي متوجهة مرة أخرى إلى دمشق ..” مين هالصبية ؟ ولوين رايحين؟ انتو كمان بدكن حرية؟ ”
بكلمات استهزائية ولكنة عنيدة تحدث أحد الضباط بهذه الأسئلة التي لا إجابات مهمة لها، ومن ثم أنقذتهم الأقدار لينشغل كل العناصر بإطلاق نار مفاجئ.
انقطاع طويل
_ ألم تتخذي قرارك يومها؟
_ بلى ، تحدثت إلى والدتي ومانعت ذهابي خوفاً علي من القصف يومها فجامعة إدلب كانت بعيدة جدا عن منزلي والطريق محفوف بالمخاطر ولكنني أصررت وذهبت
_ متى كان ذلك؟
_بعد انقطاع دام ست سنوات
كانت الحملة شرسة جدا على الشمال السوري ، مطر حقيقي من صواريخ الأرض أرض وصواريخ الطائرات ورشاشاتها الثقيلة وبراميل الموت الملقاة من المروحيات كان يغزو الأرض كل يوم، ترجف أبدان الرجال حين تدوي المروحية ببطء مثقل محمّل ببراميل المتفجرات وتدور عدة دورات فوق القرى ليلاً قبل أن تحكم على إحداها بالموت تقطيعا أو اختناقاً أو ردماً ، وتحتل السماء طائرات السيخوي نهاراً وتعبث بخرائط الريف الساحر الذي تمتلؤ بساتينه دماً . . نعم هكذا كانت الحياة في غدلب وكل المناطق المحررة من رجس نظام الأسد.
تتابع ريمة وصفها لأيامها الصعبة هناك قائلة:” كان الذهاب إلى الكلية كل يوم مكلف جدا وليس ذلك باستطاعة أهلي، لذا صرت أدرس لوحدي في المنزل وأتوجه إلى الجامعة فقط في أيام الامتحانات.. والحمد لله وما بعد الصبر إلا الجبر، فعند صدور النتائج كنت أتصدر الدرجة الأولى في الكلية، وتم إعفائي من الرسوم العام للكلية وتمت دعوتي إلى حفل تكريم ضخم يحضره عدد كبير من الأساتذة وحملة الدكتوراه والدراسات العليا”
توالت نجاحات ريمة طوال السنوات الثلاث التي أمضتها في الكلية وتشرح فرحتها:” أجمل شيء مررت به كان حينما اختارني رئيس القسم لأشاركه ترجمة رواية لأحد أضخم المخترعين العرب وهو الدكتور خير شواهين ومن ثم نجحنا في الأمر وأنا لا أزال طالبة في السنة الثالثة ، فخورة بنفسي فهذه بداية الحلم ، اسمي موجود كمترجمة على أحد أشهر مواقع العالم يا الله كم أنا سعيدة.”
هكذا استطردت بفرحة تغمر حديثها وتقول” نلت درجة الشرف أكثر من مرة في أحب شيء إلى قلبي وهو دراستي وتحديت ظروف الحرب وكسرت كل قواعد الصعاب وفعلت ما أحب في ظروف لا أحب وأتممت رحلة أربعة سنين دراسية في تسعة سنين من العناء والمكابدة ..”
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/759196891867664
هكذا كانت مسيرة ريمة أشبه بقصص الحب في الحرب كما يقال اختصرت قصص آلاف الطلاب بعد الثورة السورية ، قصص طموحهم وآمالهم وأوجاعهم.
قصة خبرية / ريم زيدان