في مقطع TED talk بعنوان المسلم الذي على الطائرة, تقول أمل قصير: “الأمر يتطلب اثنان, الفيل الذي يقدم حلوى النعناع, والآخرالذي يأخذه” معبرةً عن الخطوة البسيطة التي يقوم بها أحدهم لكسر حاجز الصور النمطية, بالنسبة للمسلمين في الغرب في حالتها. لكن الأمر سيان في مختلف السيناريوهات, وهو ماتعلمته من تجربتي مع صديقاتي التركيات ك”سوريلي” بينهم.
شاهد… قصة أملاك ليلى التي عرفت بموت زوجها المعتقل من خلال صورة
قدمتُ إلى تركيا كنت أبلغ 13 ربيعا, في ذاك الوقت التعليم هو أولويتي الساحقة وأصدقائي هم مجتمعي. دفعتني عائلتي لتعلم اللغة لحظة قدومنا, وخلال 3 أشهر أتممت دورة المستوى الأول والثاني. السنة التي تليها أصرّيت على دخول المدرسة التركية، رغم أنه لم تزل مدارس تعليم السوريين قائمةً, ما جعلني أعاني في بداية الأمر من صعوباتٍ في التسجيل، وعدم وجود زملاء سوريين في صفي وفي المدرسة كلها , ولكني كنت عازمةً وشجعتني عائلتي على ذلك. كانت شخصيتي خجولةً بعض الشيء وقتها, أضف على ذلك تحدي اللغة, ورغم معرفتي المبدئية في اللغة لكن التواصل تطلب أكثر من ذلك بكثير.
أول يومٍ في المدرسة دخلت الصف وقلت “غونايدن”, صباح الخير بالتركية. فتجمعت الطالبات حولي تسألنني, هل تعرفين التركية؟, هل أنت فعلا سورية؟ (أعتقد أني لم أطابق صورة السوريين لديهم), هل لديكم في سوريا حاسب وهل تعرفين الفيس بوك؟, ما هذا الذي تضعه السوريات على وجوههن ليبدين جميلات؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي تتراوح بين الاستهزاء والفضول وتنطوي على الكثير من الصور النمطية. أجبت حيناً وتعجبت حيناً من الأسئلة كما أني لم أفهم البعض منها, لكني أعتقد أني قدمت حلوى النعناع بتلك الغونايدن وقبلوه هم بالمقابل.
بعد سنواتٍ انتهى بي الأمر بتكوين صداقاتٍ و ذكريات لا تنسى, أتقنت اللغة وتعلمت الثقافة وأحببتها صراحةً, وتخرجت مع صديقاتي وزميلاتي التركيات. رغم الاستغراب والفضول والصورة النمطية التي كوّنها الأتراك عنا, ورغم ظنوننا وأحكامنا وفكرتنا النمطية عنهم بالمقابل.
وجدت صديقاتي التركيات عفوياتٍ ومغامراتٍ أكثر مما كانت عليه صديقاتي السوريات. لا أنسى حين أحضرت كلٌّ منّا غرض من أدوات صناعة الكبة النيئة بالجوز التركية وصنعناها في الصف على غفلةٍ من المدرسات, وبشرى تعجن وسنا تضيف البهارات ورويدا تفرم السلطة ومعها نيسا. ووصلات الدبكة التركية التي شغلت كل الباحات من أولها لآخرها. وحين شاركت صديقاتي التركيات, كبرى ومروة وبيضاء في التحضير لمسابقة اللغة العربية على مستوى المدينة, وعملنا المنشورات ورسمنا الكاريكاتور من أجل المسابقة.
وهكذا استمرت بعض الصداقات في الجامعة وتكونت أخرى جديدة وأخرى متينةً جدا. مثلاً مع صديقتي المقربة ثناء, العنتابية أورفلية الأصل, قمنا بأداء مسرحيةٍ في الجامعة كإضافةٍ بسيطةٍ لعرضٍ تقديميٍّ طلب منا لأحد الدروس, أخذنا دور الشيخ وطالبه وبكل شجاعةٍ لبسنا اللحى المستعارة وثياب الشيوخ وصنعنا عمامةً وأدينا مشهداً حوارياً فلسفياً, ونلنا العلامة الكاملة بهذا.
وملأت أحاديثنا مع فاطمة المرعشية, وتورنا التي من بينغول الطرقات والمقاهي والأحياء, من نقاشاتٍ في أعظم القضايا لأصغرها, من إيديولوجيات الدول إلى أنواع الكحل وطلاء الأظافر, والتي تكللت غالباً في التيهان في شوارع المدينة بين استكشافٍ عن عمدٍ وبين سهوٍ عن الطريق جراء احتدام النقاش.
حتى بعد الجائحة, يقول محمود درويش “إن اعادوا لك المقاهي القديمة من يعيدُ لكَ الرفاق”, حسنا, المقاهي مغلقة بالفعل بسبب شبح كورونا, لكن حمدا لله مايزال الرفاق…وتكيفاً مع الظروف اجتمعت وصديقاتي التركيات أمس عن بعد، ونظمنا “altın günü” مصغرٍ, وهو ما يطلق على الجمعيات التي تقام في منازل ربات البيوت الصديقات والجيران دورياً كل مرةٍ في بيت إحداهن, ويتناولن الطعام ويتحادثن وما إلى ذلك. حضرت كل منا طعامها وجلسنا خلف الشاشات نطوي المسافات وشوق الأيام.
اليوم وبعد ما يقارب 8 سنوات في تركيا, أقف بتعجبٍ من موقف بعض السوريين من الأتراك, والعكس. صحيح أن الانسان عدو ما يجهل, ورغم أن الموضوع قد يكون أعمق وأعقد من ذلك, إلا أن صغير الأعمال لا يمكن الاستهانة به, كحلوى النعناع تلك وال”غونايدن” مثلا.
بيان آغا
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع