رجل كبير السن في أوخر السبيعينيات من عمره، شعره مخضب باللون الرمادي والأبيض، وجهٌ ضحكوك وشخصية جذابة، رجلٌ يحمل قيم إنسانية وتمسكه بتراب حمص كان ما يلفت الأنظار دوماً.
أبو محمد يروي ل ” المركز الصحفي السوري ” قصته القصيرة ..
ها هو ذكراه تعود مرة ثانية وفي نفس المكان أرى ذاك العجوز للمرة الخمسين، بعد أن جذب اهتمامي المرة الأولى في الحديقة العامة على ذاك المقعد الخشبي الذي كان حاراً بعض الشيء من الشمس المندلعة عند مطلع النهار ، وأمامه قفص العصافير فارغ وهو يجلس على المقعد متأملا ذاك المكان .
كان يلبس جلابية طويلة بيضاء ويأتي كل صباح حاملاً حقيبة جلدية, يمشي مشية بطيئة متراخية ليست دالة على مرض أو ضعف بل كان يملك مشية ساكنة , يجلس على المقعد ينظر من حوله مع أن المكان يفتقر إلى الزوار في مثل هذه لأيام ، ولكنه يحب أن يأتي في مثل هذا الوقت كما هو واضح , يفتح حقيبته ويخرج علبة السجائر ويشعلها مستمتعاً بما هو حوله , وما حوله من أشجار عالية وأوراق كثيفة ثابتة ومترامية هنا وهناك وقطرات الماء على بتلات الأزهار التي تزهر في هذا الموسم .
يخرج دفتره صاحب الأوراق الصفراء المائلة للون البني ويكتب, ولا أدري ما يكتب , ربما يكتب مذكراته , ثم يمضي الوقت ويترك أوراقه ويذهب ويمشي قليلاً ويتنفس بعمق شديد , ويجمع بعضاً من أزهار الياسمين المتساقطة ويضعها بين صفحات دفتره ثم يجمع أغراضه ويرحل.
قررت هذه المرة أن أتجرأ وأذهب إليه, فذهبت بخطوات مترددة تعبر عن مدى خوفي من رد فعله ومن تقبله أسئلتي التي أبحث عن جواب لها من المرة الأولى, ولكني أكملت الطريق باتجاهه وهو يصب نظره في أوراقه, ثم جلست بجانبه على ذاك المقعد, ولم يشعر بوجودي ولم يعرني نظرة, ما أكد لي أنه يضع كل تركيزه فيما يكتب , ولكني احترت فيما أفعل كي أبدأ الحوار معه .
فقلت : ماأجمل هذه الرائحة ؟؟
فقال ونظره لا يزال في أوراقه : إنها رائحة الياسمين والهواء النقي .
قلت : أحب رائحة تراب حلب.
صمت قليلاً ونظر إلى السماء ثم قال : وأنا أحبها لكنها ليست رائحة تراب وطني .
قلت بطريقة ملؤها الاستغراب : ألست من هذا البلد فرد بصوت أليم : لا .
فتابعت الحديث بسؤال سريع وقلت له من أين أنت ؟؟ فدمعت عيناه ثم جمع أوراقه وأغلق حقيبته واستعد للرحيل، فوقفت معترضاً طريقه مكرراً سؤالي : من أين أنت ؟؟؟
فأخذ نفساً عميقا وقال: أنا من حمص الوليد ولكني محروم منها منذ أن حكم علينا بالموت ففررنا لاجئين للشمال السوري بعد تهجير النظام لنا.
فقلت: الحياة لا تقف وكلنا أهل بإذن الله فقطع حديثي وقال : لا ، الحياة يا ولدي تقف محطات كثيرة عندما تسلب حريتك و يقتل فلذة كبدك أمام عينيك، وعندما تخرج من بيتك مكرهاً، وعندما يكون لك معتقلاً لا تدري أين هو وماذا فعلوا به أولئك العبثيين البعثيين.
تنهد بصمت وهو يروي لي مأساته بعدما أصبح وحيداً في هذه المدينة، ومما يعانيه من ألمٍ لفقدان من هم أغلى ما يملك في هذه الحياة .
لفت انتباهي ما وجد في حقيبته، ترددت بسؤالي بعدما رأيت دمعاته وهي بدأت بالنزول من عينيه، لكنني تجرأت وسألته ماهذا الذي في حقيبتك ؟!
أجابني والدمع ينهمر من عينيه: هذا ما تبقى لي من حمص، حفنة من التراب، آتي إلى هنا كل يوم بعد صلاة الفجر لأشتم رائحة هذا التراب مع نسيم الهواء العذب في هذه الساعة من الصباح وأخلطه بزهور الياسمين .
ترّجل للذهاب،، لم أشأ أن يمشي وهو على هذه الحالة، لكنه قال لي كلمة وصلت أعماق قلبي، لا يطيب عيش المرء بغير موطنه الأم يا بني وموطني حمص … ورحل .
بقلم : محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع