ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خطابا تاريخيا تزامنا مع إلغاء “المحكمة الإدارية العليا”، قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، والقاضي بتحويل “آيا صوفيا” بمدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف، وذلك عقب توقيعه قرارا بنقل تبعية الصرح التاريخي من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية، من أجله فتحه للعبادة.
ويعد سند وقفية السلطان العثماني محمد الفاتح، أساسا للتصرف بملكية وممتلكات مسجد آيا صوفيا.
وفي محاولة منه لقطع الطريق أمام المشككين، أبدى الرئيس أردوغان استعداد بلاده لسماع جميع وجهات النظر الدولية حول هذه المسألة، وتفهم الآراء المطروحة على الساحة الدولية بهذا الصدد، شرط مراعاة أن الغرض الذي سيستخدم فيه المكان متعلق بحقوق السيادة التركية.
الخطوات الإجرائية القانونية
إجرائيا، قامت “المحكمة الإدارية العليا” في تركيا، بإلغاء قرار مجلس الوزراء لعام 1934، القاضي بتحويل “آيا صوفيا” من مسجد إلى متحف. وبموجب القرار الصادر عن المحكمة عاد المكان ثانية إلى كونه مسجدا بعد 86 عاما، وبذلك يعود “آيا صوفيا” للخدمة كمسجد وفق ماهو مبُيّن في سند الوقف الذي أسسه السلطان العثماني محمد الفاتح، بعد فتحه إسطنبول عام 1453.
ووفق ما أعلنه الرئيس التركي، فإن افتتاح “آيا صوفيا” للعبادة سيكون في 24 يوليو/ تموز الجاري، عبر إقامة صلاة الجمعة، كما سيتم إلغاء رسوم الدخول إلى المسجد عقب رفع وضعية المتحف عنه.
ويعتبر آيا صوفيا ثالت مكان للعبادة عالميا من حيث استقبال الزوار، حيث يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين زائر سنويا بمقابل مادي قدره 25 مليون دولار، تخلت عنه تركيا، ليبقى تراثا إنسانيا يزوره الجميع.
الجذور التاريخية
يعتبر فتح إسطنبول وتحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد، الحدث الأهم والأبرز في التاريخ الإسلامي التركي. فبعد حصار طويل دخل السلطان محمد الفاتح المدينة فاتحا في 29 مايو/ أيار 1453، وتوجه مباشرة إلى آيا صوفيا، وغرس رايته هناك كرمز للفتح، ثم رمى سهما باتجاه القبة. وهكذا سجل فتحه، لينتقل بعدها إلى أحد زوايا المعبد فيسجد سجدة شكر ثم يصلي ركعتين، وبهذا تحول المكان من معبد إلى مسجد.
ويروي المؤرخون أن السلطان الفاتح تلا بيتين من الشعر عند وقوفه أمام منظر الخراب الذي حل بالصرح، قال فيهما: “عنكبوت ينسج ستارة في قصر قيصر.. وبومة تحرس في برج أفراسياب”.
“آيا صوفيا” التي دخلها السلطان الفاتح، كانت قد بنيت للمرة الثالثة على أطلال كنيستين دمرتا وحرقتا خلال فترة الاضطرابات بالدولة البيزنطية، تحولت إلى جامع ودار للعبادة بعد ثلاثة أيام من فتح المدينة، حصيلة جهد مضن بذله الفاتح ليقيم صلاة الجمعة فيه.
وبفتحه إسطنبول، يكون محمد الفاتح قد حصل أيضا على لقب الإمبراطور الروماني، وبالتالي أصبح مالكا للعقارات المسجلة باسم الأسرة البيزنطية، ووفقا لهذا القانون، تم تسجيل آيا صوفيا باسم محمد الفاتح والوقف الذي أسسه، كما صدرت في فترة الجمهورية نسخة رسمية من سند الملكية المعد بالأحرف الجديدة (التي تكتب بها التركية الحالية)، ليسجل وضعه القانوني بشكل رسمي.
ولولا أن آيا صوفيا كانت ملكا للسلطان محمد الفاتح، لما كان له الحق في تسجيل هذا المكان باسمه قانونيا، ويقول السلطان محمد الفاتح، في واحدة من مئات صفحاته الوقفية التي يرجع تاريخها إلى 1 يونيو/ حزيران 1453، ما يلي:
“أي شخص قام بتغيير هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو قام بتبديل إحدى موادها، أو ألغاها أو حتى قام بتعديلها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غير أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يقومون بذلك، أو ساهم مع من قاموا بمثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو قام بإخراج آيا صوفيا من كونه مسجدًا، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزورة، أو سجله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه لحسابه كذبًا، أقول في حضوركم جميعًا أنه يكون قد ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثمًا”.
ويضيف: “من غيّر هذه الوقفية شخصًا كان أوجماعة، عليه أو عليهم إلى الأبد لعنة الله والنبي والملائكة والحكام وكل المسلمين أجمعين، ونسأل الله ألا يخفف عنهم العذاب، وألا ينظر لوجوههم يوم الحشر، ومن سمع هذا الكلام، وواصل سعيه لتغيير ذلك، سيقع ذنبه على من يسمح له بالتغيير، وعليهم جميعًا عذاب من الله، والله سميع عليم”.
وقد سعى جميع السلاطين العثمانيين، الذين خلفوا السلطان محمد الفاتح، إلى إضفاء مزيد من الجمال على مدينة إسطنبول وعلى “آيا صوفيا” التي عرفت مع مرور الزمن بمسجد المدينة الكبير بعد الإضافات التي ألحقت بها من أطرافها، لتغدو مجمعا يقدم خدماته للمؤمنين عبر العصور.
وحتى اسم الصرح التاريخي الذي يعني “حكمة الرب” بقي كما هو ولم يتم تغييره، بل احتل مكانة خاصة في أفئدة الشعب التركي على مر العصور، ومحبة خاصة توارثتها الأجيال.
آيا صوفيا أيقونة التاريخ التركي
حظيت “آيا صوفيا” بمكانة خاصة عند الأدباء والشعراء، إذ سبق للشاعر التركي يحيى كمال بياتلي، أن كتب مقالا عام 1922 قال فيه إن “هذه الدولة لها أساسان معنويان، أولها الأذان من مآذن آيا صوفيا وهي مازالت تصدح، والثانية تلاوة القرآن الكريم أمام الخرقة الشريفة (بردة النبي الكريم بقصر طوب قابي في إسطنبول) وهي مازالت تتلألأ”.
وقد ألفت أشعار كثيرة، كتبها أدباء وشعراء أتراك، تغنوا بآيا صوفيا كأيقونة لفتح إسطنبول، كالكاتب والشاعر والمفكر التركي نجيب فاضل قصاكورك، عندما قال “من تراودهم المخاوف ببقاء الأتراك في هذا الوطن.. هم أنفسهم الذين تراودهم الشكوك من إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة من جديد”.
وكذلك ذكر الكاتب التركي عثمان يوكسل سردنغتشيت، مقالة قد تمت محاكمته وإعدامه بسببها تحت عنوان “آيا صوفيا” قال فيها “آيا صوفيا ! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضأون بدموعهم ويخرون سجدًا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الآذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسًا لله وشرف نبيه، حتى أن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد. كل هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثًا بعد موت، هذا أمر أكيد لا تقلق، وهذه الأيام باتت قريبة، ربما غدًا أو أقرب من غد”.
سيبقى آيا صوفيا تراثا إنسانيا
في خطابه بهذه المناسبة، أعلن الرئيس أردوغان بأن “مسجد آيا صوفيا سيبقى تراثا مشتركًا للإنسانية ، يفتح أبوابه أمام الجميع من مواطنين وأجانب مسلمين وغير مسلمين، شأنه في ذلك شأن جميع مساجدنا، وسيواصل احتضان الجميع بشكل أكثر صدقا وأصالة. وندعو الجميع إلى احترام القرار الذي اتخذته الهيئات القضائية والتنفيذية في تركيا، وأي موقف يتجاوز التعبير عن الآراء، انتهاك للسيادة، ومن ثم ننتظر من تلك الدول نفس التفهّم حول حفاظ تركيا على حقوقها التاريخية والقانونية. فهذه الحقوق لا تعود لـ 50 أو 100 سنة، وإنما 567 سنة”.
آيا صوفيا والحريات الدينية
ثمة من يعارض إعادة آيا صوفيا لمسجد، بذريعة الحريات الدينية، وتكفي الإشارة بهذا الخصوص إلى وجود أكثر من 453 كنيسة وكنيسا مفتوحا للعبادة في تركيا، يقصدها المسيحيون وغيرهم من شتى البلدان، وهذا العدد يفوق ما لدى أوربا مجتمعة من جوامع ومساجد إسلامية.
إبان حكم الحزب الواحد، في بداية تأسيس الجمهورية التركية، أصدرت الحكومة مرسومًا يقضي أن تكون المسافة بين المسجد والمسجد 500 مترا على الأقل. هذا المرسوم كان هدفه إغلاق “آيا صوفيا” أمام العبادة. بعد ذلك وبتاريخ 1 فبراير/ شباط 1935، تم الإعلان عن تحويل المكان إلى متحف وفتحه أمام الزوار.
وخلال السنوات التي أغلق فيها آيا صوفيا أمام العبادة تعرض لعمليات تغيير ممنهجة لمعالمه، فقد هدمت الجامعة التي كانت موجودة بالمكان، المبنية من طرف السلطان الفاتح، وكانت تعد أول جامعة عثمانية، ثم تم تقطيع السجاد النادر المفروش على الأرضية، ليوزع هنا وهناك، وأخذت الشموع العتيقة وتم صهرها.
وكان هناك نية بعدم إبقاء أي أثر من “آيا صوفيا” عندما كان مسجدا، كادوا يهدمون حتى مآذنه، حيث تم تدمير المأذنة الصغيرة لآيا صوفيا التي بنيت في عهد السلطان بايزيد الثاني، وعندما رأى المؤرخ الصحفي إبراهيم حقي قونيالي أن الدور قادم على آيا صوفيا، قام بنشر تقرير على الفور قال فيه: إن هذه المآذن تعد الداعم لقبة المسجد، وإذا تم تدمير هذه المآذن فإن آيا صوفيا ستنهار أيضا، عندها توقفوا عن التدمير.
الأبعاد السياسية لعودة جامع أيا صوفيا
داخليا، ثمة برود طرأ على علاقة حزب العدالة والتنمية بالشارع المتدين المحافظ، تجلى ذلك في انتخابات بلدية إسطنبول، بعد المحللين يربطون قرار أيا صوفيا بترميم تلك العلاقة، حيث سعى الرئيس أردوغان إلى التأكيد على أنه ما زال مجددا ومنفذا لوعوده دون خشية من أحد، وأنه مازال قادراً على اتخاذ قرارات جريئة مستقلة، تلبي رغبات قواعده الانتخابية وتحقق أحلامهم التاريخية.
الأمر الآخر هو قطع الطريق على منافسيه السياسيين القدامى والجدد من كسب ود الشارع المتدين المحافظ، وكذلك ما سيثيره هذا القرار من ضجة إيجابية وسلبية حوله، من شأنه قطع الطريق على محاولة المعارضة تسويق أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، أو أحدا غيره، للمنافسة في انتخابات الرئاسة المقبلة.
خارجيا، في بداية الثلاثينيات واجهت تركيا تهديداً إيطالياً وبلغارياً مع تنامي الفاشية وزيادة التوترات الناتجة عن الخلافات الحدودية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى. استغل رئيس وزراء اليونان آنذلك، ذلك فطلب من رئيس وزراء تركيا آنذاك جلال بيار، تحويل مسجد آيا صوفيا، الذي يعتبره اليونانيون الأرثوذكس كنيستهم المسلوبة، إلى متحف، مقابل قبول الدول الأعضاء بحلف البلقان بانضمام تركيا إليه. ليستحسن مصطفى كمال أتاتورك الفكرة، واتخذ مجلس الوزراء قراراً بتحويل المسجد إلى متحف، وفعلا تم توقيع اتفاقية حلف البلقان في نفس العام بمشاركة تركية.
تتركز ردود الأفعال الناقدة لقرار افتتاح آيا صوفيا للعبادة، الصادرة عن العديد من الحكومات الغربية والشرقية، على أمرين، الأول هو تحقيق تركيا استقلالاً كاملاً في القرار، والثاني هو المركزية السياسية الإسلامية لتركيا. لذلك رأينا أن التصريحات الرافضة والمنتقدة، لم تأتِ من الدول ذات الأغلبية الأرثوذوكسية فحسب، بل جاءت من جميع الأطراف التي تريد من تركيا أن تبقى دولة وظيفية تؤدي الدور المطلوب منها، لا قوة إقليمية لها مصالحها وأجندتها المستقلة.
هذا القرار شكل رسالة واضحة للاتحاد الأوربي، الذي ما زالت غالبية دوله تنظر لتركيا بعين أيديولوجية لا تخلو من عقد الحروب الصليبية، رسالة مفادها بأن تركيا قد سئمت من سياسات التسويف والمماطلة والكيل بمكيالين وازدواجية المعايير التي ينتهجها الاتحاد حيال انضمامها لعضويته. وأن صبر تركيا بدأ ينفذ، وأنها كقوة إقليمية قادرة بمفردها على لعب دور دولي فعال، وأنها ليست عديمة الخيارات محكومة للاتحاد الأوربي والناتو فقط، وأن كسب تركيا حليفا خير لهم من خسارتها.
نقلا عن القدس العربي