آذار يأتي بذاكرة الأمل والألم… ذكرى ثورة الرّبيع السّوري والحرب المضادة لها…
ست سنوات مرّت منذ بدأت الثورة السوريّة. تغيّرت في المشهد أشياء كثيرة، واحتلّت المساحة صورة القتل والفوضى وعدم اليقين. الحرب زادت ضراوة واتخذت الإرهاب ذريعة، ومع ذلك ظلت الثورة تقاوم، على الرغم من التّضحيات الكثيرة واتساع المؤامرات ، وتأخر اكتمال المشروع الوطني.
منذ البداية كان واضحا أنّ نجاح الثورة لن يكون سهلا؛ فقد صنّفها عدوها ثورة ظلاميّة أخوانيّة ووهابيّة وعميلة للامبرالية والصهيونيّة، ضد نظام علماني تقدمي ممانع للاستكبار الأمريكي، لكي يسحب منها شرعيتها الأخلاقيّة والحقوقيّة والوطنيّة. المفهوم هذا، اقتبست منه فئات محسوبة على المعارضة، أيضا، لتهاجم أطياف الثورة والمعارضة الأخرى. طبعا، لم تسلم الثورة من اختراقات خطيرة بدعم وتمويل إقليمي، لتنفيذ مآرب سياسية، استغلت ظروف الظلم والقهر واستثمرت المظلومية والثأر لدعم ظهور تشكيلات سوريّة متشددة وجماعات متطرفة وعناصر أجنبيّة مشبوهة، أعطت نموذجا متخلفا إرهابيا للثورة لإشغال الناس به بدل الانشغال بإرهاب النظام وحلفائه وأعوانه… ومع ذلك فالإرهاب صناعة احترافية تخصص بها النظام.
حتى الآن الثورة لم تتمكن من تمثيل نفسها ومشروعها وقيادتها بشكل سليم، فاستحوذت عليها المعارضة السياسية التقليديّة الأعرف بالعمل السياسي، وقامت بتمثيلها، فنقلت إليها ضعفها ومشاكلها وصراعاتها وولاءاتها، وزاد في الإشكالية دخول أطياف من النظام السابق إلى صفوف المعارضة وحراكها الثقافي، بعضها لم يتحرر من ارتباطه بالنظام أو بعقليته، فعجزت المعارضة عن احتواء المتناقضات والفوضى والغوغائية والعصبويات التي طافت على السطح من قاع مجتمع مقهور متخلّف، بل كانت جزءا منها ولهثت بجشع وراء مصالحها الخاصة، مما أضعف الأداء الرمزي للثورة والمعارضة، وأفقدها كثيرا من شعبيتها ومصداقيتها وهزّ اليقين بمستقبل مشروعها التحرري. حتما، لايمكن إنكار أن مركز العطب الذي يحرّك بنى الفساد والتهديم هو النظام الطائفي المستبد للأسد ومنظومته، لكن لابد من الاعتراف بوجود ضياع واسع وتشوش في العمق الوطني والفكري للسوريين من سياسيين وغير سياسيين، يتحمل مسؤولية كبيرة في المأزق.
رافق الثورة عمل مدعوم من قوى خارجيّة، لتكوين أجسام وتشكيلات معارضة سورية مختلفة سياسيّة وعسكريّة ومدنيّة، وظلّت التّشكيلات وحراكاتها ، على الرغم من الأحداث الجسام والتطورات المصيرية والوجودية؛ أضعف من المطلوب، وتأخرت في رسم مشروع وطني يتفق عليه الجميع ويعمل كفريق في مقاومة النظام الإرهابي والقوى التي تحتل البلاد…. جرّبت العمل السلمي وجربت العمل العسكري؛ لكنّ هذه التجارب خضعت في جل أدائها للجهات المانحة، وبدت غالبا كردات فعل ارتجالية لا تخلو من انفعال أو عصبوية وانتهازية، وكان من السهولة أن تستغلها القوى الدوليّة وفق صالحها وتحرفها عن مسارها أو تشوّش عليها.
الحديث عن مراجعات ونقد أصبح يملأ دفّات المقالات والدراسات وصفحات الإعلام والمنصات المتكاثرة. وكلها تعيد الكلام نفسه في موضوع التوحّد والتشارك والتنظيم، والمأسسة والوطنيّة. والمراجعات ظلت لفظيّة، تسير في مسارب فرعية وسطحيّة بعيدا عن المسار الرئيس لمشكلة التنفيذ. فلم تتجمع مؤسساتيا وجماعيا وتعمل منهجيّا وفق مبادىء الثورة السورية. وكل يوم تنكشف حالات الارتخاء السياسي والهزال الفكري والاختراقات والارتباط بمنظومة النظام وحلفائه والغرف الدوليّة، والتخريب المقصود الذي مارسته بعض المنابر الاعلامية والمنصات الثقافيّة، التي تسيرها جهات استخباراتية باسم المعارضة والنظام والأقليات. لذلك فالحاجة للمراجعة يجب أن ترتبط بهدف وطني وباستراتيجيّة عمل ورؤية ذهنية للتفكير والتخطيط والتقييم، لا مراجعات شكلية وتكتيكيّة لتحصيل مصالح خاصة. هي مراجعات للفرد والجماعة وللذهنيّة.
أي مشروع لا يندمج على مبادىء الثورة( الحرية والكرامة)، ضمن آليات الديمقراطية والمواطنة العادلة، وإسقاط النظام ومنظومته، وتحقيق الاستقلال الوطني وتوحيد الأرض، سيكون مشروعا فئويا؛ لا يحقق اندماجا حيويا عميقا واستراتيجيا، بل هيمنة اتجاه على اتجاه، ويزيد في عقابيل كارثة القهر والاستبداد. ورغم اسوداد المشهد فإنّ في المخزون الجماهيري طاقة كبيرة وجدانيّة وأخلاقيّة بحاجة لمن يستثمرها في الخروج من انسداد الأفق، وتأسيس بنية تحتيّة للتعايش التوافقي وتشييد الهوية السوريّة كبناء لملاذ جماعي وخلاص جمعي. أما استمرار تغيير الواجهات السياسية وتفقيس كيانات وفق الظروف الجديدة، فسيزيد تعقيد الوضع خصوصا بعد حالة الإحباط التي ألمّت بالجميع وتصاعدت بالاستياء الشعبي من عجز المعارضة السياسية عن قيادة العمل السياسي الحالي والاستراتيجي ووضع خطة عمل واقعية، تراعي اللحظة والشحنة العاطفية للجماهير ومصير العيش السوري المشترك.
المراجعة لا تكون في التحرّك من مسمى سياسي لمسمى جديد، وبالانتقال من تجمع لتجمع آخر، ولا تكون في إسقاط الآليّة الديمقراطية، بإقصاء المختلف أيديولوجيا وتوصيفه بالخصم، للاستئثار بالحق الوطني. لبّ المشروع الوطني هو عقليّة التشارك والتعاون، ويبدأ من الإيمان بحقوق الشعب وتعدّدية مشاربه.
المراجعة لعمل القوى السياسية والعسكرية والمدنيّة، في غاية الأهميّة، مراجعة منهجيّة لمنهج العمل وأهدافه وأليات تنفيذه . فلا حل سوى استمرار الثورة وتطوير أداءاتها لأنها هي الأبقى لضمان التغيير المنشود، على الرغم مما شاب الظروف من نكوص ويأس وعجز، وفي صلب ذلك ابتكار الحلول، لتجاوز الأخطاء الناجمة عن العملية المشوهة لتركيب أشكال المعارضة. وماعاد ينفع نقد وذم من دون تصوّر عملي مستقبلي واقعي. لم يرتكب الشعب خطأ بثورته من اجل الحريّة، بل كان بطلا؛ لكنّ الظروف السياسية والاجتماعيّة كانت في غاية الصعوبة. وعليه أن يسترد زمام المبادرة، ويستعيد الثقة بشرعيّة ثورته ونبالتها، حتى يتجاوز الفوضى والعنف والفساد والدمار.
الظّرف التاريخي خطير جدا، أكبر بكثير من مصلحة فئويّة وسلطة فوقيّة، وأبعد من جدالات شكليّة لعلماني وليبرالي وقومي من موروث واقع قديم قبل الثورة؛ لم يقم باستصلاح ما يناسب. نحن في خطر على وجودنا كشعب، وبقائنا كجغرافيا وسياسة، وحياتنا كأمة وتاريخ. التوحد على المبادىء الأساسية وهي حرية سوريا واستقلالها ووحدتها وبناء الديمقراطية والمواطنة العادلة، بعد إسقاط النظام الطاغي برموزه وقادته ومنظومته وميليشياته وميليشيات حلفائه ونيل الاستقلال، لبناء مشروع الدولة ولنهضة والتحديث، لم يعد مطلبا بل فرضا وأولويّة بقاء. وهذا لا يتحقق إلا بمواجهة النخبة الثقافية والسياسية التي لم تقطع علاقاتها البنبوية مع العولمة الاستعماريّة، ومحاربة قوى الرجعيّة التي تنسخ من سياق تدميري متخلّف، ثم بالتعاون والتآزر مع مختلف القوى الداخلية الفاعلة، التي تتأسس عليها الثورة وفق حرية سوريا وكرامة شعبها، بالتنسيق مع القوى الإقليمية بما يخدم المصلحة السوريّة، ووعي حقيقة مشاريعها، لأن المصالح الحقيقية لا تكون بالتبعيّة ولا تكون بالانزواء عن العالم.
د. سماح هدايا – ترك برس