ليس أبشع من أن يموت الطفل جوعا لكن الأمر يبدو طبيعيا فلا حياة لإعلام الاستعمار العالمي ولإعلام العار العربي من مأساة شعب يموت جوعا؛ فقد بلغت البشرية المتحضرة والمدنية الحداثية من التوحش مراتب لا يحرك فيها الموت حجرا ما دام بعيدا وعلى شاشات التلفاز.
المأساة السورية لا تتوقف عن التفاعل لتتحول كل يوم إلى مأساة إنسانية مفتوحة يطبعها طابعان : الأول هو أن المأساة لا تخفَى على أحد وتُنقل صورها كل يوم على الشاشات وعلى كل مواقع التواصل الاجتماعي. أما طابعها الثاني المخيف فهو أنها رغم هذا الوضوح وهذه البشاعة فإنها تُقابَل بالصمت الدولي والعربي والإسلامي والعجز عن الحركة وعن وقف المذابح التي تعكس توجها كارثيا نحو التوحش المُعوْلم ونحو موت القيم وانهيار كل المنظومات الأخلاقية التي يروّج لها العالم المعاصر بكل أساطيله وأذرعه الثقافية والفنية والأدبية …
الأخطر من موت الأطفال السوريين في “مخيم اليرموك” أو “مضايا” بريف دمشق المحاصر من قبل مليشيات النظام وحزب الله اللبناني هو غياب الموقف العربي أو الدولي الحازم فيما يخص وقف حمامات الدم والموت التي تُغرق الدولة السورية بشكل يتعارض مع كل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية التي نراها نشطة وفاعلة في حال تتقاطع مع المصالح الاستعمارية.
الموت جوعا هو أكثر الأسلحة همجية في التاريخ الحديث حيث مارستها كل جيوش الغزاة انتقاما من السكان والمدنيين الذين لم تطلهم صواريخها وقنابلها وحممها الحارقة. لكنه في الحالة السورية يختلف عن المجاعة بما هي فعل معقد ناجم عن تفاعل عناصر كثيرة منها الطبيعي المرتبط بالمناخ ومنها الصناعي المرتبط بالإنسان نفسه كما هو الحال خلال القرن الماضي في المجاعات التي ضرت الصين أو أثيوبيا أو الصومال أو السودان. لكن اليوم لا تشكل الحالة السورية مجاعة بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح بل هي “فعل تجويع” بما هو سلاح مستعمل في حرب دائرة بين النظام وحلفائه من ناحية وبين الشعب السوري المطالب بالحرية ـ أو ما تبقى منه ـ من ناحية أخرى.
قد لا تمثل التداعيات المباشرة للكارثة الإنسانية أهم المكونات في النتائج الكارثية التي ستتمخض عنها إذ أنها قد تؤدي إلى إحداث رجات حقيقية في الوعي العربي القاعدي المتصدع أصلا جرّاء الصدمات الناجمة عن مآلات الربيع العربي التي أريد لها أن تكون كارثية.
فالشعب السوري قد خبر خلال السنوات الخمس الماضية بما هي عمر الثورة السورية كل أنواع الموت والقتل والتخريب من البراميل المتفجرة إلى الأسلحة الكيماوية مرورا بالقنابل العنقودية والانشطارية وكل الأسلحة المحرمة دوليا. درسُ الموت السوري الذي شاهده العالم على كل الشاشات يشهد كيف حوّل النظام وفرق الموت المرتبطة به ثورة شعب طالب بالحرية إلى حرب أهلية مفتوحة تقتل فيها الأقلية الطائفية الحاكمة كامل الشعب المُطالب بالانعتاق من ربقة الاستبداد مستعينة بكل القوى الاستعمارية الخارجية.
لكن تداعيات إيغال المشهد السوري في الموت إلى حدود التجويع وقطع الدواء والغذاء إنما يمثل خطوة جديدة يشارك فيها المجتمع الدولي بشكل مباشر عبر صمته عن الجريمة الواقعة على المدنيين والأطفال هناك بيد القتلة والمجرمين الذين يعرفهم العالم جميعا اليوم. فغدا لن يستطيع أحد أن يقول إننا لم نكن نعلم بما يحدث على الأرض السورية مثلما كان الأمر خلال الحرب العالمية الثانية حيث استفاق العالم على بشاعة الجرائم النازية فجأة.
الجرائم السورية تبث على المباشر اليوم ويشاهدها كل العالم لكن لا يتحرك لها أحد في حين يجتمع الملايين في أوروبا من أجل أصغر الجرائم وهو ما يؤكد بجلاء لا يدع مجالا للشك تواطؤ الجميع في الدم السوري النازف.
أخطر دروس المشهد السوري هي أنها كشفت زيف الشعارات الدولية وعرّت عجز مؤسسات المجتمع الدولي التي ليست في النهاية سوى “مؤسسات لإدارة التوحش” تقتصر مهمتها الأساسية على الوظائف الصوتية المنددة والقلقة وعلى عقد الاجتماعات واللقاءات الجوفاء.
عربيا كذلك بانَ بوضوح أنّ الجسد العربي الذي حركته الموجات الثورية الأولى للربيع قد أنهكته معاول الثورة المضادة وخناجر الدولة العميقة عبر تحويل وجهته من تحقيق شروط الحرية والعدالة إلى إدارة الفوضى ودفن الأموات.
لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم سعي القوى الاستعمارية الدولية عبر وكلائها في الداخل إلى تحويل الثورات والرغبة في التغيير والنهوض إلى خراب ودمار من أجل استحضار النموذج الاستبدادي القمعي الذي ثارت ضده الشعوب كنموذج وحيد مقبول في المنطقة العربية. أي بعبارة أخرى فكأن المجتمع الدولي يقول للشعوب العربية : ” إما الرضى بأنظمة العمالة والاستبداد أو الموت تحت البراميل الطائفية والغازات الكيميائية أو الموت جوعا”.
إنّ خيار التوحش الدولي بهذا السلوك العدواني تجاه الشعوب العربية الطامحة للحرية هو في جزء كبير منه دافع نحو التطرف والإرهاب بما هو ذريعة للتدخل الاستعماري من ناحية ومانح للشرعية القمعية للنظام من جهة ثانية.
بناء عليه فلن يكون الوعي العربي القادم كمثل الذي كان قبل دروس الربيع القاسية والأليمة حيث سيكون محور الرحى فيه إدراك بأن “الشرعية الدولية” و”حقوق الأنسان والحيوان” و”حماية الأقليات” والمحافظة على سلامة المحيطات وأسماك القرش النادرة وحتى الديمقراطية نفسها ليست إلا شعارات جوفاء وأقنعة استعمارية متوحشة أسقطتها ذات ربيع دماء الشهداء في أرض العرب وبطون أطفال سوريا الخاوية.
عربي 21