هو انقلاب غريب وسريع وساذج لا يليق بأمة مرت فقط في زمنها المعاصر بأربعة انقلابات، أمة يجب أن تكون ذات خبرة في هذا النوع من التحرك العسكري، لا يليق بأمة يجب ان تكون قد تخطت أصلاً هذه الأساليب السياسية العسكرية القديمة، ولكن، وحيث أنني لا أميل لنظــــريات المؤامــــرة وللتفسيرات الطائشة بعيدة المدى، أقول لربما لكل زمان ظرفه وناسه، وهذان تحكما في نوعية الانقلاب التركي الأخير وفي ظروف حدوثه. وعلى الترحيب الذي لاقاه استتباب الشرعية في تركيا إثر فشل الانقلاب، بقي اثنان من ردود الفعل المثيرة والمتوقعة، ولربما على جانب كبير من الكوميديا السوداء الحالكة ليأخذا مكانهما في تركيا والعالم العربي بعد انتهاء الانقلاب الفاشل.
أولاً، ما أن انتهى الانقلاب حتى غرق العالم العربي المسكين في حوار طائفي على درجة متدنية جداً من الذكاء، واهتاج الناس على المنقلبين على اعتبار أنهم دسيسة إيران، علوية، صفويين، وكان من بين أجمل ما قرأت أنهم من الليبراليين العلمانيين الكفرة. ارتفعت الأصوات العربية الإسلامية مؤيدة لأردوغان في شخصه وليس للديمقراطية والشرعية التركية التي كانت هي هم الأتراك، فأصبح هو حامي الأمة الإسلامية، وانتصاره انتصار للطائفة السنية ودحر للعلويين أو الصفويين وفي روايات أخرى للعلمانيين والليبراليين.
المضحك في الموضوع أن أردوغان لم يألو جهداً في التمسك بعلمانية وديمقراطية بلده وليبرالية التوجه فيها، وأن الطرف المعارض له، سواء كان غولن أو غيره، هو طرف إسلامي سني آخر مناهض، لا علاقة هنا لا لشيعة ولا لعلوية ولا لليبراليين ولا لعلمانيين. إنه العقل العربي المريض، الذي يصور كل حدث على أنه لا يمكن أن يخرج عن دائرة الطائفية المريضة التي استدارت فحوطت كل حيواتنا.
وان لم يكن ذلك، فالحدث لا يخرج عن أنه دسيسة غربية، منهجية ليبرالية علمانية كافرة تريد أن تستحوذ على حياتنا الراقية والمريحة والديمقراطية، يريدون أن يخرجونا من جنة ساستنا وأنظمتنا، ونحن، يخزي العين، متمسكون بهم وبكل الديكتاتوريات السياسية والدينية التي تشكل قوائم كراسيهم التي يجلسون عليها.
ثانياً، ما أن انتهى الانقلاب حتى بدأ فصل ديكتاتوري حزين ومتوقع وإنْ كنا نأمل بتخطيه إلى منهجية ديمقراطية تحررية تضرب مثلاً جديداً في التعامل مع «الأعداء.» ها هي حملات «التطهير» تبدأ في تركيا، فيقال الآلاف ويحاكم مثلهم في إجراءات احترازية عصابية تعكس خوفاً وانتقاماً أكثر ما تعكس منهجية سياسية واعية في إدارة الدولة.
بعد لم نر مثالا واضحا في عالمنا العربي الإسلامي لنظام ينتصر ويبقي على الديمقراطية أو ينتهج سبيل الحفاظ على الحريات وحقوق الناس، فأول أولويات المنتصر هي المحافظة على بقائه وتأمين نفسه والانتقام من أعدائه. وحيث أن تركيا ليست عربية وليست تماماً إسلامية، تمنينا أن نرى نموذجا انتصاريا جديدا محببا وقريبا من العالم العربي يشكل نموذجاً لهم ربما يمكن الاحتذاء به، ولكنها النزعة الإنسانية البدائية الممهورة، في حالة تركيا، بجيرة عربية وصبغة دينية دفعت أردوغان لهذه التصفية، والتي لم يكلف نفسه حتى عناء تغطية أو تجميل وجهها الانتقامي العنيف.
وهكذا نحن، بين مطرقة المنتصر وسندان المهزوم، خياراتنا دائماً بين سيء وأسوأ، لم نحظ بعد في عالمنا المنكوب بخيار ديمقراطي حقيقي، لربما لأننا لم نصنعه بعد، فهذه الخيارات لا تقدم على صحن من ذهب، ولكنها تعجن وتخبز في مطابخ الشعوب وتقدم في صحون من ورق حارة ساخنة طازجة ألذ من ألف خيار مخملي بارد يقدم في أروقة القصور. فمتى نأكل أكلة حارة طازجة شهية؟ متى؟
د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب – القدس العربي