كثيرةٌ هي الأهوال التي سلّطها نظام الأسد على عموم السوريّين على مدى عقود. ومخيفٌ مقدار العنف الذي أنزله بهم في السنوات السبع الماضية. يكفي تعداد أسماء مدن وبلدات على مدى الخريطة السورية لاستذكار المجازر التي نُفّذت فيها وحالات الحصار والتهجير والقتل بالبراميل أو بالغاز الكيماوي التي أصابت أهلها.
وإذ ينبغي التذكير الدوري بالجرائم هذه لكيلا يطويها النسيان، وللبناء الحقوقي عليها يوماً ومنع الحصانة عن مرتكبيها، فإن التدقيق راهناً في وقائع بعضها ومؤّدياته يُعين على تشريح فلسفة الحُكم الأسدي ومرامي عنفه سياسياً ورمزياً.
النصّ التالي محاولة لفعل ذلك عبر التوقّف عند جريمتين منظّمتين ومتماديتين يرتكبهما النظام ضمن الحيّز الجغرافي الذي يسيطر عليه، أي خارج السياق الحربي والقصف عن بُعد. جريمتان هما التجسيد الأبلغ لشكل العلاقة التي يريدها في تعامله مع «المواطنين»: التعفيش والاستباحة من جهة، واعتقال عشرات الألوف وقتل الآلاف منهم تعذيباً وإخفاء جثامينهم من جهة ثانية.
في التعفيش ومدلولاته
لا يرتبط السطو على البيوت والأملاك الخاصة بسلوكيّات جنودٍ وشبّيحة يرون في مناطق حاصروها وقصفوها ثم اجتاحوها حيّزاً للنهب والانتفاع والانتقام من عدوّ وإذلاله فقط. فمسألة «التعفيش» على ما يسمّيها السوريّون، مسألة تتخطّى السلوكيّات هذه أو المبادرات الميدانية والفوضى التي ترافقها.
هي سياسة «نظاميّة» قائمة في ذاتها، تُتيح للمُقاتلين دفاعاً عن الحكم الأسدي غنائم تعزّز ولاءهم، وتكشف بالمقابل لعموم الناس هشاشتهم وانكشافهم إن نجوا من القتل على احتمالات الاستباحة الكاملة لحياتهم العامة كما لشؤونهم الخاصة ومقتنياتهم المنزلية. فتسليط الجنود والشبّيحة على الناجين، وعلى ما سلم من مساكنهم ومكاتبهم وورش عملهم من التدمير، هو تذكير من النظام لهم بأنهم كائنات معدومة الحقوق، منهوبٌ حاضرها ومُعلّق مستقبلها على مشيئته. يملك القول في حياتها ومماتِها، يُحيل عمارها إلى حطام، ويصادر إن شاء ذكريات ماضيها الحميمة. وتلك، إذ تحويها الصالونات والمكتبات وأجهزة الكمبيوتر ولوحات الجدران وأدراج الخزائن وغرف النوم، تصبح في لحظة مُلكاً لِسارقين يعبثون بها ويبيعون بعضها في أسواقٍ يُطلقون عليها مسمّيات طائفية (أسواق السنّة)، يعرف الشُراة فيها مصدرَ ما يشترون، ناهبين حاجيات غيرهم وماضي حياته المعلّقة، ومفاقِمين في فعلتهم الخوف والكراهية وما قد يلِد من مركّبهما من عنف جديد.
بهذا، يسعى النظام إلى تحويل محكوميه إلى فصيلين رئيسيّين، سارق ومسروق، وبينهما فصائل أُخرى من المذعورين أو الشامتين أو الصامتين، شرط توازن القوى بينها وإفلاتها من عقابه هو الولاء له وممارسة العنف باسمه أو الصمت والقبول بالمهانة بوصفها فريضة الطاعة أو ضريبتها التي لا مفرّ منها.
القتل في المعتقلات
وخطف الجثامين
الأكثر فظاعة وتوحّشاً من فعل التعفيش ومؤدّياته، هو بالطبع ما يُمارسه النظام في معتقلاته حيث عشرات الألوف من الموقوفين والمُختطفين والمفقودين. مزيج من الوحشية القروسطية والبيروقراطية الحديثة تدير سجوناً وآلة تعذيب وقتل وإخفاء لجثث المعنّفين، وشائعات واقتصاد مافياوي وإفادات وفاة غامضة، وشهادات خارجين من الجحيم، تُحيلنا جميعها إلى مستويات مقاربة ثلاثة لمسألة الاعتقال والإخفاء في سوريا اليوم.
المستوى الأول، مرتبط بمعنى تحويل «إدارة» الاعتقال والتعذيب إلى حالة بيروقراطية روتينية تُفضي إلى صناعة إبادةٍ أطاحت حتى العام 2017 وفق تقارير «منظّمة العفو الدولية» بما لا يقلّ عن 30 ألف معتقل ومعتقلة، قُتلوا تعذيباً أو تجويعاً أو مرضاً أو إعداماً. وقد وثّقت عدسة المصوّر العسكري المنشق «قيصر» لِجثث أكثر من 5 آلاف منهم، مرقّمةٍ بدقّة (وبرقمين متسلسلين أحياناً) يشهد ناجون من المعتقلات أنهم كانوا يُجبرون على حملها إلى شاحنات تنقلها إلى أماكن مجهولة.
المستوى الثاني متعلّق بخلق اقتصاد مافياوي قائم على ابتزاز عائلات المعتقلين مقابل وعود بإطلاق سراحهم أو تأمين معلومات عنهم، أو تسليم جثثهم، أو حمايتهم من التعذيب الشديد أو إدخال أدوية لهم أو نقلهم إلى سجون أقل «صعوبة» واكتظاظاً من غيرها. واستفاد ويستفيد من هذا الاقتصاد ضبّاط ومحامون وقضاة وسماسرة من صلب آلة النظام، يقدّمون وعوداً غالباً لا تتحقّق ومعلومات في أكثرها كاذبة، وينهشون أملاك ذوي المفقودين، مكرّسين التكامل بين آلة القتل والجهاز الإداري المُسيّر لها والأجسام الأمنية والقضائية ومعها الوسطاء وتجّار الوعود المستفيدين منها.
أما المستوى الثالث، فيقوم على تعميم رعب وقلق وثقافة شائعات وشكّ لا تصيب عائلات المعتقلين وحدهم، بل جميع المحيطين بها أو المتواصلين معها. فإبقاء كل معلومة عن مصير هذا المختفي أو ذاك أقرب إلى الإشاعة منها إلى الواقعة، والتمنّع عن تسليم جثث من قيل إنهم قضوا ثم تقديم شهادات وفاة أو تواريخ موت توضع في خانات السجلات الرسمية، يُبقي شرائح واسعة من المجتمع في حالة ترقّب دائم، وكأنها رهائن تنتظر يقيناً لا يأتي من خلف الجدران أو من تحت الأرض.
هكذا لا يُخفي النظام في ممارساته وفي مستوياتها واستهدافاتها، لا سيّما سرقة الجثث، آثار جريمته بمقدار ما يُبقيها سيفاً مسلّطاً على عائلات الضحايا وبيئاتهم الاجتماعية، يسكن الخوف بعضهم على مصير أحبّتهم، ويمنع غياب الجثامين عن بعضهم الآخر الحداد ويعلّق حياته على انتظار أليم. لا تأكيد حياة ولا تأكيد موت ولا تاريخ مثبتاً طالما أن المعنيّين بالوفاة بلا أثر. ولا قدرة على تحديد أمكنة احتجاز أو دفن لهم، بما يجعلهم أشباحاً هائمة، ويجعل الأحاديث عنهم تكهّنات وتمنّيات وتحسّرات.
العيش بين الأشباح
يقتل نظام الأسد من السوريّين وفلسطينيّي سوريا ويُخفي الكثيرين. يُعذّب ويغتصب ويجوّع ويُعيد بناء جدران الخوف والصمت التي تداعت بعد العام 2011. يحفر في ذاكرة الناجين الوجع والجوع والاستباحة، ويُبقي ذوي المفقودين معلّقين على الدوام بين الأمل واليأس، فرائس لمافيات الوعود، أو باحثين عن جثث ابتلعها كما ابتلع المعفَشون أغراض ضحاياهم وصورهم وبعض ماضيهم وحاضرهم.
يمارس النظام تسلّطه إذاً على الأحياء، ويُمارسه أيضاً على جثث القتلى. كأنه في صناعة الإبادة هذه لا يكتفي بالقتل، بل يبحث عن تحويل قتلاه إلى أشباح. فلا قتيل بلا جسد، ولا موت بلا قبر، بل أشباح تذكّر الناجين كلّ يوم بما قد ينتظرهم، وتذكّر القتلة أنفسهم بأنها قد تطاردهم إن تهاوت آلتهم وسقط نظامهم.
«سوريا الأسد» هي بهذا المعنى سوريا الأشباح، أو سوريا الرعب والإشاعة والاستباحة والانتظار. وهي في ذلك، وفي سواه من أمور، لم تعد قضية سورية ولا إقليمية، ولا حتى أرض صراعات دولية قديمة أو مستجدّة. صارت قضية وجودية، يتطلّب التعامل معها تعاملاً مع التحدّيات التي تفرضها على الإنسانية جمعاء. ذلك أن عشرات الألوف من الأشباح قد لا تبقى حبيسة ترابها وحدودها أو ما نجا من جدرانها…