جاءت الضربة بعد سجال سياسي غربي روسي صاخب في أروقة الأمم المتحدة (مجلس الأمن الدولي ومجلس حقوق الإنسان) بشأن مسؤولية النظام السوري عن قصف مدينة دوما بسلاح كيميائي يوم 7 إبريل، استمر أسبوعا، أنكرت روسيا خلاله حصول هذا القصف؛ واتهمت المعارضة، الخوذ البيضاء تحديدا، بفبركة الصور، واتهمت المملكة المتحدة بلعب دور في ذلك؛ قبل أن تبدأ ترويج روايات عن اكتشاف مواد كيميائية في مستودعات فصائل المعارضة في الغوطة الشرقية، مصدرها المملكة المتحدة وألمانيا، واستخدمت حق النقض (الفيتو) يوم 11/4 ضد مشروع القرار الأميركي البريطاني الفرنسي، وألقت سحبا من الشك على تحقيق بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بقول وزير خارجيتها سيرغي لافروف إن موسكو تأمل “أن تتغلب المهنية عند التحقيق في هذا الحادث”.
شهد السجال السياسي والدبلوماسي تلويحا غربيا بالرد على الضربة الكيميائية، في حال عدم صدور قرار من مجلس الأمن، وتهديدا روسيا “بمواجهة الصورايخ التي ستطلق على سورية، واستهداف منصات إطلاقها”، وفق تصريح السفير الروسي في لبنان، ألكسندر زاسيبكين، ما أضفى على الضربة العسكرية الغربية مغزى استراتيجيا فحواه “الاستخفاف بالردع الروسي”، فالضربة التي صُممت وخُطط لها كي تكون تحديا لغطرسة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونزعته الإمبراطورية، من خلال امتصاص عنصر القوة الذي يلوح به: السلاح، بإظهار
القدرات العسكرية الغربية، وخصوصا الأميركية، التي تتفوق على الروسية وتسبقها بأشواط، عبر تنفيذ ضربة صاروخية جوية تحت أنظار الضباط الروس، وقواتهم الدفاعية التي ملأوا الدنيا ضجيجا بشأن خصائصها الفنية وقدراتها العملياتية، وهذا ألحق بهم وبرئيسهم وبلادهم إهانة قاسية بذهاب تحذيراتهم المتكرّرة ووعيدهم بعواقب وخيمة أدراج الرياح، ناهيك عن التحدّي الأميركي الصريح لروسيا ورئيسها، إن بتغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وجه كلامه إلى روسيا ورئيسها (الصواريخ قادمة)، أو كلام رئيس المخابرات الأميركية مايك بومبيو: “الرئيس بوتين لم يستوعب إلى حد كاف الإشارة. وعلينا مواصلة العمل على هذا الاتجاه”.
هزّت الضربة صورة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين (اعتبرها السفير الروسي لدى الولايات المتحدة إهانة لبوتين) وأفقدتها جزءا مهما من رصيدها الدولي؛ كما حطت من شأن سلاحها، وأجهضت خطة الرئيس الروسي في مناكفته الولايات المتحدة عبر تبني سياسة حافّة الهاوية، واللجوء إلى التصعيد المتواتر حتى يبلغ مرحلة الاستنفار النووي، ما سيضطر الولايات المتحدة إلى الجلوس معه على طاولة التفاوض، لبحث تقاسم النفوذ في العالم، كما في أيام الاتحاد السوفييتي. سياسة رد عليها موقع “NG” الروسي، الذي يدور في فلك الكرملين، في تعليق له على “الاثنين الأسود”، في مقالة بعنوان “أميركا تملك سلاحاً أقوى من سلاح سارمات وبوريفسنيك”، اللذين أعلن عنهما الرئيس الروسي في خطابه أخيرا عن حالة الاتحاد أمام البرلمانيين الروس، بقوله: “لدى أميركا سلاح آخر غير خوض المعارك الحربية وبلوغ حافة النزاع النووي الشامل، فهي بوسعها خنق موسكو بالعقوبات الاقتصادية”.
لم يكن هدف الضربة عسكريا بالمطلق، فقد خُطط لها ونُفذت بعد الإعلان عن القرار بشنّها بأيام، ما سمح للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين بأخذ احتياطاتهم لتلافى الخسائر عبر إعادة نشر قواتهم وأسلحتهم لتجنب الضربة المباشرة، ما يعني أن هدفها لم يكن تحقيق مكاسب عسكرية، بل استثمار حدث عسكري (ضربة الكيميائي) في تحقيق هدف سياسي: الاعتراض على الحل الذي خطته روسيا مع تركيا وإيران في أستانة وسوتشي للصراع في سورية، وطرح بديل يتسق مع قرارات الأمم المتحدة. وهذا ما أكّده التحرك الدبلوماسي الغربي؛ بعد ساعاتٍ على الضربة؛ عبر طرح مشروع قرار في مجلس الأمن للحل في سورية، قائم على تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وخصوصا القرارات 2118 و2254 و2401، التي تتناول السلاح الكيميائي والحل السياسي ووقف النار والجوانب الإنسانية، مع التمسك بمسار جنيف وحيدا للتفاوض. ولكنها (الدول الثلاث) لا تريد تكرار خطأ روسيا بالعمل على حل منفرد، لا يأخذ مصالح الفاعلين في الملف السوري بعين الاعتبار، فدعت إلى حل توافقي، بالاستناد إلى قرارات دولية صوتت عليها دول مجلس الأمن، بما في ذلك روسيا ذاتها.
هدفت الضربة إلى إفهام روسيا أنه غير مسموح لها بالانفراد في السيطرة على سورية، وأنه لا حل من دون مشاركة الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، وإن اللعب على التناقضات وترويج حل سياسي خارج إطار الأمم المتحدة لن يمر؛ وإنه لا بد من تغيير قواعد اللعبة بالعودة إلى مسار جنيف، والتخلي عن المحاولات غير المجدية لتمرير حل عبر مسلسل أستانة وسوتشي، ما يعني تغيير سلوكها وسياستها.
لم تقبل روسيا الدعوة الغربية إلى حل يلتزم بالقرارات الدولية، لأنه يقلص دورها وحصتها في سورية، فشنّت هجوما سياسيا وإعلاميا على الضربة والدول الثلاث، على أمل إجهاض تحركها السياسي، فقد دان الرئيس بوتين “العدوان على بلد مستقل”، وحذر من تداعياته على النظام الدولي، وأعلن عن دعوة بلاده مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة لبحث التطور الذي قامت به واشنطن وحلفاؤها، موضحاً أن القصف الذي نفذته واشنطن وحلفاؤها انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، ووصفه بأنه “عمل عدواني ضد دولة ذات سيادة، تقف في طليعة الدول التي تكافح الإرهاب”. وقال وزير خارجيتها سيرغي لافروف إن “الضربة الثلاثية على سورية نسفت عمليةالسلام“، وحذر مما أسماها “محاولات لتدمير سورية وتقسيمها وإبقاء وجود قوات أجنبية في أراضيها إلى الأبد”، وشدد على “رفض موسكو تلك المحاولات” التي تأتي في إطار “الهندسة الجيوسياسية”، لأنها تخالف الاتفاقات الدولية في
خصوص تسوية الأزمة السورية، مؤكدا “إصرار” بلاده “على تأسيس اللجنة الدستورية بدعم من الأمم المتحدة والدول الضامنة”، ما يعني تمسّكه بنتائج سوتشي ورفضه المشروع الغربي، وهو ما كرّره السفير الروسي في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، بقوله: “جهود الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الأمم المتحدة لبدء تحقيق جديد في الأسلحة الكيميائية في سورية، وإنعاش محادثات السلام تأتي في غير وقتها”، وطرحه خطة مضادة من ست نقاط.
وقد عكس السجال السياسي والإجراءات الميدانية، وقوف روسيا، لأول مرة منذ تدخلها العسكري المباشر في سورية في شهر سبتمبر/ أيلول عام 2015، موقفا دفاعيا، في مواجهة موقف أميركي هجومي يضع لها، بتحرّكه الميداني والسياسي مع المملكة المتحدة وفرنسا، خطوطا حمراء من أجل ردعها وتقليص نفوذها في سورية والمنطقة، وهو ما لم تقبل به؛ فصعدت في نقدها الموقف الغربي (عدم شرعية الوجود الغربي في سورية، خطط أميركية لتقسيم سورية، الضربة عدوان على دولة مستقلة.. إلخ)، وافتعلت مشكلات واختلقت قضايا (عرقلة دخول بعثة المفتشين إلى دوما، الادعاء باكتشاف مواد كيميائية مصدرها بريطاني وألماني، انتقاد إحجام أميركا وبريطانيا عن إرسال خبرائهم إلى دوما، التلويح بتزويد النظام السوري صواريخ إس 300، عقد اجتماع لغرف التنسيق الأمني الروسي الإيراني النظام السوري العراقي في بغداد للرد على التحرك الغربي) كي تربك دول المحور الغربي، وتشل تحركها ريثما ترتب أوراقها في مسرح الجريمة. لكنها عادت وقبلت الانحناء للعاصفة، وتمرير اتفاق أولي في “خلوة باكاكرا” السويدية بالقبول بالعودة إلى مفاوضات جنيف، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، وتوفير خروج آمن للمدنيين من مناطق القتال، من دون اتضاح حقيقة موقفها، وهو تسليم بالمطالب الغربية في ضوء تقويمها أثر الضربة عليها، أم محاولة لتبريد الأجواء في انتظار فرصة أنسب.