أبدأ بمقوله لنزار ” في الخمسينات كنا نكتب لشارع عربي ملتحم وموحّد النسيج، أما الآن فنحن نكتب على الماء والهواء”.
لن أتحدث عن نزار قباني شاعرا عاشقا فهذا مستقر في عقل كل عربي.. لكن نزارا سياسيا صورة غريبة عن فكرنا العربي، غريبة عما تعلمناه في كتبنا ومدارسنا وجامعاتنا، وما ألفناه على أرصفة الشوارع وواجهات المكاتب.
لم أشاهد كتابا يتحدث عن نزار قباني سياسيا، أو عن مواقفه السياسية على تلك الأرصفة.. وقد نظّم في الأرض والوطن والنكسة والانتفاضة فمن عناوين دواوينه: ديوان لا، وديوان قصائد مغضوب عليها، وديوان الكبريت في يدي.. في المقابل هناك الآلاف لطفولة نهد، وقالت لي السمراء، والرسم بالكلمات، وبلقيس..
بدأ نزار حياته الجامعية في كلية الحقوق وعمل سفيرا في كل من القاهرة وأنقره ولندن ومدريد وبكين وبيروت تعرف خلالها إلى السياسة وخبر دهاليزها فحاول أن يكتب فيها وأخذ المجتمع هدفا لأشعاره فكانت انعكاسا لفكره التحرري الشمولي لكن ما لبثت السلطة مع تنامي وجود حزب البعث وسيطرته على الدولة أن بدأت بمضايقته والتضييق عليه حتى غادر البلاد واستقر في لبنان.
ثم أمضى حياته مسافرا في فكره وجسده بين باريس وجنيف واستقر في لندن التي عاش فيها آخر حياته وكانت مرحلة القصائد السياسية الساخنة وخصوصا في عقد التسعينات من القرن العشرين فقاوم مشروعات السلام والتطبيع مع إسرائيل، وعبر عن ذلك في فصائدة الشهيرة: المهرولون، المتنبي، ومتى يعلنون وفاة العرب.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا من منا قرأ نزارا سياسيا عربيا قوميا، من قرأ لنزار قصائده اللاذعة في نقد السياسة وتعرية خيبات العرب منذ 1966 وبوادر السيطرة الكاملة لحزب البعث على سوريا بكافة مفاصلها السياسية والعسكرية والتعليمية.
فهل غياب فكر نزار في السياسة والمجتمع ومحاولاته التنويرية كان مقصودا أم مجرد صدفة؟ وأي صدفة تستولي على الحياة الأدبية والفكرية لأكثر من 50 سنة! هل الصدفة أن تنشر دواوينه العشقية عشرات المرات وهل الصدفة في عدم وجود كتاب واحد على واجهة مكتبة يعنون لغير المرأة وهل الصدفة في رسالة الدكتوراه لفلك جميل الأسد في اللذة الجنسية لدى نزار.
أعتقد أن ذلك لنقده اللاذع للمؤسسة السياسية المسيطرة على الدولة وعدم مهادنته لها وصدامه مع الساسة الخونة وقد قابلوا كبريائه ووطنيته بذكاء واستثمروا أشعار شبابه وشطحاته الشعرية وغيبوا كونه مصلحا، فقدموه للمجتمع ماجنا، وقد ساعد على ذلك كون المجتمع آنئذٍ مجتمعا دينيا منغلقا مليئا بالرواسب الطارئة على الفكر والدين والحياة السليمة وقد خبر هذا المجتمع نزارا في شبابه عاشقا.. كما أن المجتمع في ذاك الدهر الأسود لم يجرؤ على اتخاذه سياسيا بديلا للبسطار الذي سُلط على رقاب الناس منذ 1963.
لنتذكر قصيدته “متى يعلنون وفاة العرب”، فكأنه يتحدث عن واقعنا:
أنا منذ خمسين عاما أراقب حال العرب/ وهم يرعدون ولا يمطرون
وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون/ أنا منذ خمسين عاما
أحاول رسم بلاد تسمى مجازا بلاد العرب / وحين انتهى الرسم ساءلت نفسي
إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب/ ففي أي مقبرة يدفنون
ومن سوف يبكي عليهم/ أنا بعد خمسين عاما
أحاول تسجيل ما قد رأيت/ رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم
ولكنني ما رأيت العرب.
مجلة الحدث_ علاء العبدالله