لن نختلف في أن إسقاط حلب مرتبط بحسابات خارجية، وأطراف إقليمية، ونظرة قاصرة لشركاء المعركة في الداخل، لكن دعونا نتحدث عن الأسباب والمسببات، ونعيد ترتيب الأوراق، بما يخدم الهدف الرئيسي الذي خرج لأجله الشعب السوري في مارس/آذار 2011، المتمثل في إسقاط النظام السوري، وإقامة دولة مدنية تحفظ الحقوق، وتصون الحريات، وقبل ذلك تعكس الكرامة الإنسانية للمواطن السوري، التي جرى إهدارها على مدى خمسة عقود من الزمن.
من أسباب الهزيمة في حلب التي أثرت على العمل العسكري، الارتباط بالخارج، والتعويل عليه أكثر مما ينبغي، وهذا وضع الثوار أمام جملة من الرهانات التي تأثرت بها الثورة السورية، فمثلاً لعب الدعم الخارجي المشروط دوراً بارزاً في تجريد الثورة من هويتها السورية لصالح أهداف خارجية، وظهرت تزامناً مع ذلك ما تسمى بالمعارضة المعتدلة، التي سخرت إمكانياتها لمواجهة تنظيم الدولة بشكل رئيسي، وظهرت غرفة العمليات المشتركة المعروفة بـ”الموك”، التي لعبت دوراً عبثياً في تفكيك فصائل الجيش الحر، وإذكاء الفصائلية فيما بينها، وكان من الطبيعي أن تظهر جماعات مدعومة دولياً للقضاء على الثورة، والسعي لإقامة كيانات مستقلة كما هو الحال مع ميليشيا سوريا الديمقراطية التي تسعى لإنشاء كيان كردي مستقل يتعارض مع أهداف الثورة السورية، ولذلك ينبغي فك الارتباط بالمخططات الخارجية، واعتماد أهداف الثورة السورية كمرجعية رئيسية في قادم الأيام.
من ضمن أسباب الهزيمة أيضاً العمل الانفرادي، ورغبة كل فصيل من الفصائل في فرض ما يراه مناسباً، وعدم الجنوح لفكرة الاندماج التي طالب بها الشعب السوري مراراً وتكراراً، فضلاً عن حدوث اقتتال بين شركاء الميدان لأسباب سلطوية، وبهذا يكون المقاتلون قد فرّطوا في أهم أسباب القوة وهي الوحدة، وتناسوا قوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”، وقوله تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”، ولذلك ينبغي التركيز على وحدة العمل العسكري والثوري في المرحلة القادمة؛ إذ من غير المقبول أن تتحد ميليشيات أجنبية من دول مختلفة، بينما يختلف السوريون فيما بينهم.
لسنا بحاجة للتخوين وتبادل الاتهامات فيما بين الثوار الذين خاضوا معركة فرضت عليهم، ولم ينتصروا فيها بقدر حاجتنا لمراجعة حقيقية لمسار الثورة، فالأيام دول، والحرب كر وفر، ودوام الحال من المحال، وصاحب الحق أقوى من جبروت الباطل مهما اشتد طغيانه، ومن ظن أن معركة حلب حسمت لصالح الميليشيات الدخيلة على أهلها فهو مخطئ، ونظرته قاصرة لا تتعدى مد بصره، الصراع بين الحق والباطل سيستمر وفقاً لسنن الله في هذا الكون الفسيح.
هل تذكرون بداية انطلاقة الثورة السورية، وحناجر المتظاهرين ترتفع بالهتاف بوحدة الشعب “الشعب السوري واحد”، وإسقاط نظام الاستبداد “يلّا ارحل يا بشار” وتهتف بالحرية للوطن “سوريا بدها حرية”؟ كانت هذه الهتافات معبرة عن روح الجماهير التي تخرج بمئات الآلاف على امتداد التراب السوري ترفع علم الثورة، ولا تزال جذوتها مشتعلة، تحتاج فقط لرجال صادقين، مخلصين لعدالة القضية لا المكاسب، مؤمنين بمعية الله لا الخارج، مراهنين على إرادة الشعب لا على الدعم الخارجي والإرادة المستوردة.
لقد كان للثورة جيش واحد قليل الأفراد والعتاد، فحقق انتصارات كبيرة قبل أن يتدخل الخارج لإنقاذ النظام المتهالك، واليوم وفي ظل تشرذم الثوار وتفرقهم إلى فصائل رغم كثرة العدد، والعتاد، فقدت الثورة السورية مناطق مهمة لن تكون آخرها حلب ما لم يتوحد العمل العسكري.
هزيمة حلب فرصة تاريخية لمراجعة مسار الثورة، وإعادتها إلى البوصلة الرئيسية بعيداً عن جلد الذات، والخلافات الضيقة، والمكايدات الحزبية، والفصائلية، فرب ضارة نافعة، كما يقول المثل الشعبي، ومن يدري فربما الفرصة الآن سانحة ليتوحد الجميع، ويراجعوا حساباتهم بكل صدق وإخلاص؛ لتصحيح الأخطاء التي مرت بها التجربة الثورية خلال السنوات الخمس الماضية، ولديَّ قناعة شخصية بأن هزيمة حلب ستحمل في جوانحها الكثير من التداعيات الإيجابية خلال الأيام القادمة، فروح الثورة لا تموت طالما بقيت جذوتها متقدة.